أزمة القيم وفوضى الأخلاق - منتديات غزل وحنين
أزمة القيم وفوضى الأخلاق
أزمة القيم وفوضى الأخلاق
أزمة القيم وفوضى الأخلاق
- هل نقول عليه العوض ومنه العوض؟
- نعم. ولما لا !
فلسان
حال الأوضاع اليوم لا ينطق غير ذلك، فقد ضاع الكثير والكثير، وخسرنا أيضاً
الكثير, وضيعنا على أنفسنا فرص الحياة الكريمة والطبيعية التي كانت هدفاً
لنا وسط هذا التشابك والتناقض الذي يجتاح حياتنا ويذبحنا بسكينه في كل
وقت وفي كل حين.
أدرنا
ظهورنا للحقائق، وضربنا بها عرض الحائط، غفلنا بكل بساطة، وعشنا تلك
الغفلة بنتائجها السوداء الحقيرة والمدمرة والتي استمرت سنوات وسنوات حتى
أكل وشرب الزمان علينا، عشنا وتعايشنا مع هذا المرض العضال الذي حَوّل
الأرض الطيبة إلى صحراء قاحلة، والماء الطيب إلى ماء ملوث، والإنسان إلى
اللا إنسان، وصَمِتنا صمت القبور على ذلك واستمر صمتنا إما خوفاً أو ضعفاً
أو نفاقاً.
ودائماً ما نتسأل:
- ما الذي حدث ويحدث؟
- ما الذي أضاع من أقدامنا الطريق؟
- ما الذي أضعنا من أنفسنا؟
- وكيف ننجو من خسائرنا المتلاحقة؟
- ما الحل؟
لقد
أصبحت دنيا اليوم غابة كبيرة من الأسمنت والخرسانات المسلحة، تفشت بيننا
هذه السلبية منذ أن رفضنا الواقع وكل المحاولات التي تبغي انتشالنا من بين
أحضان اليأس والهروب والانسحاب، رفضنا أن يكون لنا دور أو أن نستأنف
حياتنا بشكل طبيعي، رفضنا الإضاءة والنور فانفرط العقد منا، تفككنا
وتباعدنا وتقوقعنا، كل فرد في نفسه، كل فرد لنفسه، المهم أنه قرر أن ينجو
بنفسه، فهو يعيش لنفسه، ويموت في نفسه، ويا روح ما بعدك روح.
ويحدث
عندنا إننا وبمجرد أن نتخطى حد العتبة حتى ينصب المسئول من نفسه راعي لنا
ويشكر نفسه ثم الظروف التي أتت به لينتشلنا مما نحن فيه بخططه السنوية
والثلاثية والخمسية، فهو أعظم العباقرة التي جادت بهم الدنيا، وأرسلتهم رسل
لنا، بل هو أعظم من الرسل، ولذلك يجب علينا أن نقبل يديه وجبهته صباحاً
ومساءاً وندعو له في كل وقت ومع كل آذان، حيث أنه قد خلق في غير زمانه وسط
عالم متخلف وأقل بكثير من مستواه الراقي!!
فالمسئول
المصري ما أن يرتقي كرسي السلطة ويثبت نفسه داخل أركانه الأربعة إلا وصار
سلطاناً لا يمكن أن تراه أو تكلمه إلا في الأحلام، فيستقر في برجه العاجي
وسط حاشيته ومقربيه مبتعداً عنا نحن ذلك الشعب المسكين البائس الذي أوصله
إلى السلطة، بصوته المنخفض وبصوته العالي وبدون صوته.
فيترك
المواطن المسكين عارياً تمزق صدره وحوش الجوع والحاجة والحرمان، وجرت
العادة أن يبتعد هذا المسئول عن كل الأفكار الموجودة ويضرب بها عرض الحائط
ويعتمد على (الأنا) والأشخاص المعدودين المحيطين به الذين يقدمون له
المشورة والنصيحة، فيما يعمل هو ومقربيه على محاربة وتطويع وتنويم كل
الأفكار الأخرى، ومن لا ينوم مغناطيسياً أو مادياً سينوم بطلقة مجهولة أو
بعملية مدبرة أو كما هو متبع مع كل أصوات المعارضة ومع من يشتبك مع توجهاته
السياسية والفكرية حيث سيجد نفسه في السجون والمعتقلات أو في إحدى الترع
أو على ناصية أحد الشوارع مغشياً عليه أو متوفياً جراء ضربه لنفسه أو
ابتلاعه لتلك اللفافة الملعونة!!
نعم
أصبحت الحياة بأيدينا نحن لا بيدي عمرو نفق مظلم، متاهة كبيرة، لوغاريتمات
متتالية لا نعرف بدايتها من نهايتها أو حل وسط لها، ساد في المجتمع قيم
جديدة وغريبة وانحلت وتدهورت قيم وتقاليد صرنا نترحم عليها.
أرأيتم الذي أصابنا؟!
لقد تحولت مجتمعاتنا بأكملها، بكافة أشكالها وأنماطها إلى مسخ كريه، أصابها ما أصاب مدينة "بومبي" الإيطالية[1]،
أنفجر البركان وثار عليها وألقي في وجهها الحمم، فتجمد كل الناس في
أماكنهم، وكّونوا لوحة قاتمة للموت الأسود، كذلك نحن أصابنا الشلل ولم نحرك
ساكناً، اندفعنا اندفاعاً رهيباً نحو التجمد والوقوف في المكان، أسندنا
ظهورنا للحائط وللبيت وللمدرسة وللجامعة وللمسجد وللكنيسة، عزلنا أنفسنا عن
أمور الحياة، واعتدنا على أن لا نفكر أو نتدبر أو ندبر أمورنا، حيث أن
التفكير يهبط علينا فقط من فوق، من خلف الخط الهمايوني والفرمانات
والقرارات الحكومية والوزارية، ومن القوانين المشوهة المطبوخة والمفصلة في
مطبخ السياسة القذر، ومن مكبرات الصوت والأبواق ذات النبرة الناشز
والأنانية والموجهة طبعاً، ومن الفضائيات السابحة في سمائنا قهراً
وعدواناً، وبذلك يتأكد لنا أننا عاجزون عن الفعل ورد الفعل والسبب نحن.
لقد تخلينا عن المبادئ والقيم والمُثل العليا التي تربينا عليها، أهلنا عليها التراب حتى صرنا وطن محمل بالهموم، وطن يكتظبالجائعين:
فجياع خاوية البطون، وجياع خاوية العقول، وجياع خاوية الأفئدة. صرنا طموح
وأحلام تغتالها رعونة القرارات المتخبطة، والحملات الأمنية التي استباحت
كل حق وكل شيء جميل.
فأصبحنا حقاً نعيش في زمن اللاوعي والانقلاب والانفلات، في زمن
الصراعات الطبقية والسياسية والتهميش والشتات، في زمن التعصب الديني
واللوني والجنسي، والحَجر على المبادئ والقيم وتصفية العقول، إننا حقاً في
زمن الأزمة.
إننا نعيش اليوم في حالة من الانفصام المجتمعي "الشيزوفرينيا المجتمعية"، نتدحرج بين واقع بائس نعيشه وبين واقع افتراضي نحلم به،فتجد الجميع يتحدثون عن الوطن وحب الوطن وروح الانتماء، عن الفقراء والكادحين، عن البطالة والشباب، عن الفساد والشفافية، وعنالكثير
من مفردات الهم المصري، لكننا بالمقابل غير ذلك مما ندعي تماماً، فنحن
نصنف على أننا من أكثر الدول فساداً في العالم، نأوي الفاسدين والمفسدين،
نلقي النذور على أعتابهم وندعوا لهم بالنجاة من كل الشرور، نساعدهم ونمدهم
بالعون والمدد، نعطيهم الحصانة البرلمانية، والباسبورات المزورة لأجل
الهروب بأموالنا والتمتع بها في الخارج، إنه انفصام مريع ، فالدولة
ومؤسساتها كافةوالتي يفترض إنها تمثل النخب السياسية والعلمية والاقتصادية والثقافيةوالإدارية نجد الكثير من نخبها ليست سوى مجموعات وصلت نتيجة المحسوبية والصفقات السياسية والرشوةوغيرها من الأمور الفاسدة والمستفزة، لذلك تجد الكثير منهم لايفقه شيئا ولا هو على علم بأبسط الأمور، وهو أمر مستمر الحدث منذ أكثر من 25 عاماً وفيالأمر شرح وإيضاح طويل ولكنه في مطلق العموم لن يسعنا هنا.
الأخطر
هو تسرب تلك القيم والعادات المشوهة والأساليب الشاذة والغريبة إلى
الأوساط الثقافية والعلمية والفكرية، ولا أعرف أهي بذلك تكون عدوى خطيرة
تنهش في الجسد الثقافيوالعلمي والفكري بعد أن أصاب فيروس الأنانية والأنا مالية كل تلك الأيقونات ومفرداتها وقبلهم المجتمع وعناصره؟!
لا أعرف
ولا أعرف لماذا الجميع ينكر كل ذلك؟!
ينكرون شيوع حالة الفوضى وعدم الانضباط علىكافة المستويات، والتسيب واللامبالاة، وازدياد أنماط من الجرائم لم يكنالمجتمع المصري يعرفها من قبل، كجرائم المحرمات "التحرش الجماعي، والشذوذالجنسي، وزنا المحارم" وجرائم المال والنصبوالاحتيال وخير مثال على ذلك ما حدث من شركات توظيف الأموال وغيرها من الأنشطة المشوهة والمقّنعة.كذلك
تلك الظواهر الغريبة التي لم تكن فيه، منها زيادة معدلات الانتحار في
مجتمع عُرف عنه اهتمامه الشديد بالدين منذ الأزل، بالإضافة إلي عمليات
الهجرة غير الشرعية التي حولت القوارب المتهالكة إلي مقابر للدفن الجماعي
في باطن البحر بعد أن فضل الشباب الذي أحس بأنه غريب عن أهله وعن
بلده - بعد أن عُزل عن الحياة وعن المشاركة فيها - الموت علي العيش في بلد
إن صح التعبيرأصبح في يد حفنة من رجال الأعمال يُعدون على أصابع اليد
ويتحكمون في كل شيء حتى ارتفعت الأسعار وتفاقمت الأزمة الاقتصادية لتطحن
المواطنين جميعاً، تواكب ذلك مع تراجع الوازع الديني وطغيان النظرة المادية فضعفت القدرةعلي مواجهة المشاكل.
ولازال
الجميع ينكرون أنهم قد فعلوا أي شيء خاطئ، ربما الجميع خائفون، أي اعتراف
بالذنب أو إقرار بالخطأ أو تعاطي مع الرأي الأخر سيترجم على أنه نوع من
الضعف وربما جريمة، رغم أن ذلك خطأ كبير، فأنا أرى ذلك نوع من أنواع
النضوج، فالحياة عبارة عن اقتراف للأخطاء وإفساداً للأمور وطبيعتنا البشرية
لا تقول غير ذلك.
ربما
يكون هذا عند البعض درباً من الجنون أو توهم وخيال بحت، لكنني أفتقد ذلك
نوعاً ما، فهذا الأمر يضفي إيجابية تمنح الإنسان ثقة فيما يقول وترفع
المعترف بخطئه إلى مكانة أسمى وتزده اقتراباً من قلوب الناس، فتصحيح
الأوضاع وإعادة الأمور إلى مكانها الأساسي والمسلم به أمر لابد منه ولن
يأتي إلا من خلال ذلك.
ولذلك
لابد لنا من مواجهة أنفسنا والاعتراف بأننا بتنا نعيش أزمة حقيقية على
المستوى القيمي، هناك فجوة كبيرة بين ما نريد وما نقدر عليه، والفجوة أكبر
بين ما نقدر عليهوما نقوم به فعلا، ينبغي علينا أن نبحث عن أسباب
هذا الخلل القيمي الذي أضحى آفة في جسد مجتمعاتنا، وأول خطوة يجب أن نقوم
بها هي حصر وتحديد القيم السلبية المثبطة للنهوض بمجتمعاتنا، ولعلأهم القيم السلبية التي تؤثر عليناهي:
وحينما نضيف القنوات الفضائية التي تعرض يومياً على شاشتها هذا العنف الواقعي إلي قائمة أخري من أحداثالعنف
الحقيقية التي نتعرض لها في ساعات المساء عبر نشرات الأخبار، حيث تنتشر
الدماء وتتناثر الأشلاء في الحروب والكوارث الطبيعية, وحين تأتيبرامج المصارعة بالكثير من العنف والدماء, وتلاحقنا السينما بالمزيد من أعمال العنف والجريمة.
فإن السؤال الذي يبقي بلا إجابة هو: كيف يمكن لأي شخص أن يتعرض لهذا الكم من العنف ويبقي علي القليل من الاحترام للحياةالإنسانية؟!
ويبدو
أننا بهذا العبث الإعلامي قد دخلنا دائرة جهنمية لن ينجو منها أحد. حيث
يُصنع في أذهان الناس واقعاً مريضاً سوف ينتج أناساً بطبيعة الحال أشدمرضاً ليصنعوا الواقع الأسوأ وهكذا.
أما
السلطة فإنها تنظر إلى المواطن بتوجس وحذر وترى فيه مخادعاً أو متآمراً
وبالتالي تحتاج لقانون طوارئ يحكمه ويتحكم في نواياه الخبيثة- في نظرها -
التي لا تكفيها القوانين العادية فهو في نظر السلطة ماكر ومخادع يمكنه
الاحتيال على القوانين واستغلال ثغراتها.
هذا التشوه في منظومات القيم هو بالضبط أعراض الحالة التي تعبر عن هشاشة المجتمع وتراجع قيمه الإيجابية، مما يؤدي إلى تعثرمسيرته وتدهور أوضاعه العامة.
ولعل السؤال الذي يتبادر إلي الأذهان الآن هو:
- كيف نخرج من هذه الأزمة القيمية والفوضى الأخلاقية؟!
- ما الحل؟
فحينما ينفرط عقد المجتمع وتسري فيه عوامل التفكك والتشرذم، فلن ينقذه منكل ذلك سوى مشروع واضح المعالم، يحدد ركائز الاستمرار ووجهة السير. وهو أهمما تفتقده مصر في الوقت الراهن.
لقد
قرأنا كتب كثيرة عن اليابان ثاني بلد صناعي وثالث قوة تجارية في العالم
وكيف أنها ورغم انكساراتها قد نهضت وتماسكت، واهتدت إلى سبيل التنمية
والتقدم، فركبت القطار ولحق بها في منظر بديع للغاية دول شرق آسيا المعروفة
بالنمور الآسيوية "كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان"، ثم ماليزيا
فتايلاند فإندونيسيا، ولكن ما يهمنا هنا أنه لولا تلك المنظومة القوية -
منظومة القيم المجتمعية- وذلك الأمل لما عادة تلك الروح لتشق طريقها وتثابر
لأجل مستقبل أفضل، ومع ذلك لم نسمع حتى الآن في مصر إلا ضجيجاً وصراخاً
لا يغني ولا يسمن من جوع، رغم أسهام العديد من العلماء والباحثين والكتّاب
والمفكرين على رأسهم ا.د. علي ليلة أستاذ علم الاجتماع كلية الآداب,
جامعة عين شمس، و ا.د جلال أمين الكاتب والمفكر الكبير أستاذ الاقتصاد
بالجامعة الأميركية و ا.د. محمد إبراهيم منصور مدير مركز الدراسات
المستقبلية بمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء وفريق
بحثه وغيرهم من العلماء والباحثين بالكثير من الدراسات والرسالات
والمقالات التي طرحت مبادئ استرشادية واستراتيجيات مستقبلية يمكن من
خلالها حل الأزمة وتجاوزها, فالكل يعلم مدى الخطورة ويحذرون منذ قديم
الأزل من سيادة الفوضى الأخلاقية ويدركون أن استقرار أي مجتمع وتقدمه إنما
يرتكز علي قيم أخلاقية معينة وثابتة.
حيث
أدركوا عمق العلاقة التي تربط بين الأخلاق والسياسة, تلك العلاقة التي
جعلتهم يؤكدون أن العدالة الاجتماعية هي وحدها المخرج الأساسي من هذه
الأزمة وبها يتم إصلاح المجتمع المدني أخلاقياً وسياسياً أو سياسياً
وأخلاقياً. فحدوث تغيرات أساسية في الهيكل الاقتصادي قد أدى بالتالي إلى
تراجع قضية العدالةالاجتماعية، في الوقت الذي صعدت فيه مفاهيم
ومصطلحات دالة على قضايا أخرى منها "الانفتاح"، و"التحرر الاقتصادي"
و"الإصلاح الاقتصادي" و"الخصخصة".
وتقدمت-
في المقابل- سياسات مكافحة الإرهاب، والتصدي للجريمة المنظمة، وملاحقة
الاتجار في المخدرات، على السياسات التي كانت تسعى لتذويب الفوارق بين
الطبقات، ومحاصرة الفقر، والقضاء على الجهل، والارتفاع بمستوى معيشة
المواطنين، وتحقيق التوازن والعدالة بين الذين لا يملكون والذين يملكون، أو
بين العمال وأصحاب الأعمال.
وعلى
ضوء ذلك فإن غياب العدالة الاجتماعية وفقدانها في ظل اللامبالاة المستمرة
والمنتشرة من قِبل الجميع"الدولة ومسئوليها والمثقفين والمواطن"، وإهمال
كل صوت ينادي بمعالجة هذا الوضع القائم والمتفاقم هو سر أسرار ما نعانيه
من أزمة قيمية وفوضى أخلاقية وسلوكية, ومن ثم فبداية الإصلاح تكون
بالإدراك النظري لأهمية العودة إلي سلم القيم الأصيلةالتي يتمتع بها الإنسان المصري علي كل المستويات ولننتقل من هذا الإدراك النظري لأهمية العدالة الاجتماعية إليالتطبيق العملي لها في حياتنا.
إن
الإنسان إذا وجد القدوة الحاضرة سيعيش تلك الحالة التي تؤكد المفهوم
الشامل للعدالة الاجتماعية، وسينقلب من إنسان فوضوي رافض لقيمه التقليديةومستمتع بالخروج عليها إلي إنسان منتم ومنظم ومحب لكل ما من شأنه إعادة العدالة إلي حياته.
لقد تكلمنا كثيراً، وانتقدنا كثيراً،ولكن ماذا خطونا؟ وماذا عملنا؟
رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدةولا أبالغ إن قلت إننا بحاجة إلي التربية من جديد، ولنيصلح حالنا إلا بالالتفاف حول هدف يوحد الجميع ويثقون فيه، نحن بحاجة إلي التغيير والعدالة الاجتماعية.
لنبدأ العمل ولنترك الكلام، ولنبدأ في تغيير أنفسناً أولاً.
نتمنى من الله أن نجد الدعم والصدى الطيب لنشرع في ذلك.
فإن لم نتكلم نحن, فمن؟
وإن لم نتكلم الآن, فمتى؟
وعلى الله قصد السبيل
- هل نقول عليه العوض ومنه العوض؟
- نعم. ولما لا !
فلسان
حال الأوضاع اليوم لا ينطق غير ذلك، فقد ضاع الكثير والكثير، وخسرنا أيضاً
الكثير, وضيعنا على أنفسنا فرص الحياة الكريمة والطبيعية التي كانت هدفاً
لنا وسط هذا التشابك والتناقض الذي يجتاح حياتنا ويذبحنا بسكينه في كل
وقت وفي كل حين.
أدرنا
ظهورنا للحقائق، وضربنا بها عرض الحائط، غفلنا بكل بساطة، وعشنا تلك
الغفلة بنتائجها السوداء الحقيرة والمدمرة والتي استمرت سنوات وسنوات حتى
أكل وشرب الزمان علينا، عشنا وتعايشنا مع هذا المرض العضال الذي حَوّل
الأرض الطيبة إلى صحراء قاحلة، والماء الطيب إلى ماء ملوث، والإنسان إلى
اللا إنسان، وصَمِتنا صمت القبور على ذلك واستمر صمتنا إما خوفاً أو ضعفاً
أو نفاقاً.
ودائماً ما نتسأل:
- ما الذي حدث ويحدث؟
- ما الذي أضاع من أقدامنا الطريق؟
- ما الذي أضعنا من أنفسنا؟
- وكيف ننجو من خسائرنا المتلاحقة؟
- ما الحل؟
لقد
أصبحت دنيا اليوم غابة كبيرة من الأسمنت والخرسانات المسلحة، تفشت بيننا
هذه السلبية منذ أن رفضنا الواقع وكل المحاولات التي تبغي انتشالنا من بين
أحضان اليأس والهروب والانسحاب، رفضنا أن يكون لنا دور أو أن نستأنف
حياتنا بشكل طبيعي، رفضنا الإضاءة والنور فانفرط العقد منا، تفككنا
وتباعدنا وتقوقعنا، كل فرد في نفسه، كل فرد لنفسه، المهم أنه قرر أن ينجو
بنفسه، فهو يعيش لنفسه، ويموت في نفسه، ويا روح ما بعدك روح.
ويحدث
عندنا إننا وبمجرد أن نتخطى حد العتبة حتى ينصب المسئول من نفسه راعي لنا
ويشكر نفسه ثم الظروف التي أتت به لينتشلنا مما نحن فيه بخططه السنوية
والثلاثية والخمسية، فهو أعظم العباقرة التي جادت بهم الدنيا، وأرسلتهم رسل
لنا، بل هو أعظم من الرسل، ولذلك يجب علينا أن نقبل يديه وجبهته صباحاً
ومساءاً وندعو له في كل وقت ومع كل آذان، حيث أنه قد خلق في غير زمانه وسط
عالم متخلف وأقل بكثير من مستواه الراقي!!
فالمسئول
المصري ما أن يرتقي كرسي السلطة ويثبت نفسه داخل أركانه الأربعة إلا وصار
سلطاناً لا يمكن أن تراه أو تكلمه إلا في الأحلام، فيستقر في برجه العاجي
وسط حاشيته ومقربيه مبتعداً عنا نحن ذلك الشعب المسكين البائس الذي أوصله
إلى السلطة، بصوته المنخفض وبصوته العالي وبدون صوته.
فيترك
المواطن المسكين عارياً تمزق صدره وحوش الجوع والحاجة والحرمان، وجرت
العادة أن يبتعد هذا المسئول عن كل الأفكار الموجودة ويضرب بها عرض الحائط
ويعتمد على (الأنا) والأشخاص المعدودين المحيطين به الذين يقدمون له
المشورة والنصيحة، فيما يعمل هو ومقربيه على محاربة وتطويع وتنويم كل
الأفكار الأخرى، ومن لا ينوم مغناطيسياً أو مادياً سينوم بطلقة مجهولة أو
بعملية مدبرة أو كما هو متبع مع كل أصوات المعارضة ومع من يشتبك مع توجهاته
السياسية والفكرية حيث سيجد نفسه في السجون والمعتقلات أو في إحدى الترع
أو على ناصية أحد الشوارع مغشياً عليه أو متوفياً جراء ضربه لنفسه أو
ابتلاعه لتلك اللفافة الملعونة!!
نعم
أصبحت الحياة بأيدينا نحن لا بيدي عمرو نفق مظلم، متاهة كبيرة، لوغاريتمات
متتالية لا نعرف بدايتها من نهايتها أو حل وسط لها، ساد في المجتمع قيم
جديدة وغريبة وانحلت وتدهورت قيم وتقاليد صرنا نترحم عليها.
أرأيتم الذي أصابنا؟!
لقد تحولت مجتمعاتنا بأكملها، بكافة أشكالها وأنماطها إلى مسخ كريه، أصابها ما أصاب مدينة "بومبي" الإيطالية[1]،
أنفجر البركان وثار عليها وألقي في وجهها الحمم، فتجمد كل الناس في
أماكنهم، وكّونوا لوحة قاتمة للموت الأسود، كذلك نحن أصابنا الشلل ولم نحرك
ساكناً، اندفعنا اندفاعاً رهيباً نحو التجمد والوقوف في المكان، أسندنا
ظهورنا للحائط وللبيت وللمدرسة وللجامعة وللمسجد وللكنيسة، عزلنا أنفسنا عن
أمور الحياة، واعتدنا على أن لا نفكر أو نتدبر أو ندبر أمورنا، حيث أن
التفكير يهبط علينا فقط من فوق، من خلف الخط الهمايوني والفرمانات
والقرارات الحكومية والوزارية، ومن القوانين المشوهة المطبوخة والمفصلة في
مطبخ السياسة القذر، ومن مكبرات الصوت والأبواق ذات النبرة الناشز
والأنانية والموجهة طبعاً، ومن الفضائيات السابحة في سمائنا قهراً
وعدواناً، وبذلك يتأكد لنا أننا عاجزون عن الفعل ورد الفعل والسبب نحن.
لقد تخلينا عن المبادئ والقيم والمُثل العليا التي تربينا عليها، أهلنا عليها التراب حتى صرنا وطن محمل بالهموم، وطن يكتظبالجائعين:
فجياع خاوية البطون، وجياع خاوية العقول، وجياع خاوية الأفئدة. صرنا طموح
وأحلام تغتالها رعونة القرارات المتخبطة، والحملات الأمنية التي استباحت
كل حق وكل شيء جميل.
فأصبحنا حقاً نعيش في زمن اللاوعي والانقلاب والانفلات، في زمن
الصراعات الطبقية والسياسية والتهميش والشتات، في زمن التعصب الديني
واللوني والجنسي، والحَجر على المبادئ والقيم وتصفية العقول، إننا حقاً في
زمن الأزمة.
إننا نعيش اليوم في حالة من الانفصام المجتمعي "الشيزوفرينيا المجتمعية"، نتدحرج بين واقع بائس نعيشه وبين واقع افتراضي نحلم به،فتجد الجميع يتحدثون عن الوطن وحب الوطن وروح الانتماء، عن الفقراء والكادحين، عن البطالة والشباب، عن الفساد والشفافية، وعنالكثير
من مفردات الهم المصري، لكننا بالمقابل غير ذلك مما ندعي تماماً، فنحن
نصنف على أننا من أكثر الدول فساداً في العالم، نأوي الفاسدين والمفسدين،
نلقي النذور على أعتابهم وندعوا لهم بالنجاة من كل الشرور، نساعدهم ونمدهم
بالعون والمدد، نعطيهم الحصانة البرلمانية، والباسبورات المزورة لأجل
الهروب بأموالنا والتمتع بها في الخارج، إنه انفصام مريع ، فالدولة
ومؤسساتها كافةوالتي يفترض إنها تمثل النخب السياسية والعلمية والاقتصادية والثقافيةوالإدارية نجد الكثير من نخبها ليست سوى مجموعات وصلت نتيجة المحسوبية والصفقات السياسية والرشوةوغيرها من الأمور الفاسدة والمستفزة، لذلك تجد الكثير منهم لايفقه شيئا ولا هو على علم بأبسط الأمور، وهو أمر مستمر الحدث منذ أكثر من 25 عاماً وفيالأمر شرح وإيضاح طويل ولكنه في مطلق العموم لن يسعنا هنا.
الأخطر
هو تسرب تلك القيم والعادات المشوهة والأساليب الشاذة والغريبة إلى
الأوساط الثقافية والعلمية والفكرية، ولا أعرف أهي بذلك تكون عدوى خطيرة
تنهش في الجسد الثقافيوالعلمي والفكري بعد أن أصاب فيروس الأنانية والأنا مالية كل تلك الأيقونات ومفرداتها وقبلهم المجتمع وعناصره؟!
لا أعرف
ولا أعرف لماذا الجميع ينكر كل ذلك؟!
ينكرون شيوع حالة الفوضى وعدم الانضباط علىكافة المستويات، والتسيب واللامبالاة، وازدياد أنماط من الجرائم لم يكنالمجتمع المصري يعرفها من قبل، كجرائم المحرمات "التحرش الجماعي، والشذوذالجنسي، وزنا المحارم" وجرائم المال والنصبوالاحتيال وخير مثال على ذلك ما حدث من شركات توظيف الأموال وغيرها من الأنشطة المشوهة والمقّنعة.كذلك
تلك الظواهر الغريبة التي لم تكن فيه، منها زيادة معدلات الانتحار في
مجتمع عُرف عنه اهتمامه الشديد بالدين منذ الأزل، بالإضافة إلي عمليات
الهجرة غير الشرعية التي حولت القوارب المتهالكة إلي مقابر للدفن الجماعي
في باطن البحر بعد أن فضل الشباب الذي أحس بأنه غريب عن أهله وعن
بلده - بعد أن عُزل عن الحياة وعن المشاركة فيها - الموت علي العيش في بلد
إن صح التعبيرأصبح في يد حفنة من رجال الأعمال يُعدون على أصابع اليد
ويتحكمون في كل شيء حتى ارتفعت الأسعار وتفاقمت الأزمة الاقتصادية لتطحن
المواطنين جميعاً، تواكب ذلك مع تراجع الوازع الديني وطغيان النظرة المادية فضعفت القدرةعلي مواجهة المشاكل.
ولازال
الجميع ينكرون أنهم قد فعلوا أي شيء خاطئ، ربما الجميع خائفون، أي اعتراف
بالذنب أو إقرار بالخطأ أو تعاطي مع الرأي الأخر سيترجم على أنه نوع من
الضعف وربما جريمة، رغم أن ذلك خطأ كبير، فأنا أرى ذلك نوع من أنواع
النضوج، فالحياة عبارة عن اقتراف للأخطاء وإفساداً للأمور وطبيعتنا البشرية
لا تقول غير ذلك.
ربما
يكون هذا عند البعض درباً من الجنون أو توهم وخيال بحت، لكنني أفتقد ذلك
نوعاً ما، فهذا الأمر يضفي إيجابية تمنح الإنسان ثقة فيما يقول وترفع
المعترف بخطئه إلى مكانة أسمى وتزده اقتراباً من قلوب الناس، فتصحيح
الأوضاع وإعادة الأمور إلى مكانها الأساسي والمسلم به أمر لابد منه ولن
يأتي إلا من خلال ذلك.
ولذلك
لابد لنا من مواجهة أنفسنا والاعتراف بأننا بتنا نعيش أزمة حقيقية على
المستوى القيمي، هناك فجوة كبيرة بين ما نريد وما نقدر عليه، والفجوة أكبر
بين ما نقدر عليهوما نقوم به فعلا، ينبغي علينا أن نبحث عن أسباب
هذا الخلل القيمي الذي أضحى آفة في جسد مجتمعاتنا، وأول خطوة يجب أن نقوم
بها هي حصر وتحديد القيم السلبية المثبطة للنهوض بمجتمعاتنا، ولعلأهم القيم السلبية التي تؤثر عليناهي:
- غلبة
القيم المادية على العلاقات بين الأفراد، حيث أصبحت المصالح هي التي
تحدد شكل العلاقات الإنسانية، وأضحت قيمة الكسب السريع هي الإطار
الحاكم في المجتمع وأدى ذلك إلى الاستخفاف بأهمية تجويد العمل
واللامبالاة والاستهتار حتى في أرواح الناس (انهيار العمارات سلوكيات
الحرفيين واستهانتهم بقيمة الإتقان والانضباط في مواعيد العمل
والإنجاز في معظم المجالات) وكان من نتائج ذلك على الأسرة تحول كل عضو
داخل العائلة إلى ما يشبه الشيء المادي، حيث اختفت لديه المشاعر
الوجدانية وأثر ذلك في سلوكيات مواقف الحياة المختلفة.
- سيادة
قيم الاستهلاك الترفي، حيث لم يعد الاستهلاك قيمة مقابلة لقيمة
الإنتاج. بل أصبح وسيلة لتحقيق طموحات طبقية وتمايزات اجتماعية. ولعبت
وسائل الإعلام والإعلان أدواراً عظيمة في ترسيخ قيمة "متعة التسوق"،
إلى جانب الآثار الناجمة عن الهجرة إلى البلدان النفطية والتي ساعدت
على تبنى قيم التسوق والجوع إلى الاستهلاك الترفي.
- شيوع السلوك السلبي والعزلة الاجتماعية، حيث ظهرت سلبية المواطنينوانسحابهم عن قضايا المجتمع ومشكلاته والانشغال بهموم الحياة الفرديةوالأسرية. ومن أبرز صور الانسحاب ضعف روح الانتماء والعزوف عن المشاركةالفعالة في المؤسسات الاجتماعية المختلفة. لقد آثر البعض تبنى السلوكباعتباره النموذج الأمثل للتكيف أو للصعود في السلم الاجتماعي.
- إحلال النزعة الفردية محل النزعة الجماعية، فقد سادت القيمالفردية وأصبح الفرد يبحث عن مصالحه الشخصية دون الالتفات للمصلحة العامةأو لمصالح الآخرين، ولا ندل على الفردية المطلقة من أنانية سائقي السياراتفي الشارع المصري مما يشكل فوضى مرورية تنتقد إلى معايير أخلاقية تشكلتهديداً لقيم المجتمع واستقراره وتكمن خطورة ذلك في انخراط الفرد في البحثعن حلول لمشاكله بطريقته الخاصة وينتج عن ذلك ظهور سلوكيات انحرافيةوأخلاقية كالرشوة وحالات الفساد الإداري والمالي والنفاق الاجتماعي والتملقللسلطة وسيادة الفهلوة والشطارة المزيفة.
- تزايد العنف الثقافي أو ترسيخ ثقافة العنف والتطرف، حيث تشيرالشواهد الحياتية إلى تزايد الميل نحو العنف والتطرف بصوره المختلفة، بدءاًمن عنف الحوار ومروراً بالتشاجر والصراع اليومي وانتقالاً إلى العنفالجسدي
والاغتصاب، ومن يطلع على صفحات الحوادث في الجرائد اليومية يلاحظ
شيوع أنماط مستحدثة من الجرائم مثل: قتل الأزواج لزوجاتهم أو قتل
الزوجاتلأزواجهن وقتل الأبناء لآبائهم وقتل الآباء لأبنائهم، ومن يلاحظ سلوكياتالتلاميذ بالمدارس يستطيع رصد مظاهر العنف السائدة في العلاقات بينهم الذييتدرج من العنف اللفظي إلى العنف الجسدي التدميري.
وحينما نضيف القنوات الفضائية التي تعرض يومياً على شاشتها هذا العنف الواقعي إلي قائمة أخري من أحداثالعنف
الحقيقية التي نتعرض لها في ساعات المساء عبر نشرات الأخبار، حيث تنتشر
الدماء وتتناثر الأشلاء في الحروب والكوارث الطبيعية, وحين تأتيبرامج المصارعة بالكثير من العنف والدماء, وتلاحقنا السينما بالمزيد من أعمال العنف والجريمة.
فإن السؤال الذي يبقي بلا إجابة هو: كيف يمكن لأي شخص أن يتعرض لهذا الكم من العنف ويبقي علي القليل من الاحترام للحياةالإنسانية؟!
ويبدو
أننا بهذا العبث الإعلامي قد دخلنا دائرة جهنمية لن ينجو منها أحد. حيث
يُصنع في أذهان الناس واقعاً مريضاً سوف ينتج أناساً بطبيعة الحال أشدمرضاً ليصنعوا الواقع الأسوأ وهكذا.
- انسداد قنوات التغيير السلمي والشرعي مما يؤدى إلى علاقة ملتبسة بينالمواطن
والسلطة. فهو يراها سلطة مستبدة يحمل تجاهها مشاعر الرفض والغضب وفى
نفس الوقت يداهنها ويخشاها, وشيئا فشيئا تحدث تشوهات في شخصية
المواطن فإما أن ينفجر غضبه في أعمال عنف تجاه السلطة وأدواتها, أو
يزيح هذا الغضبتجاه غيره من المواطنين فيقهرهم ويعذبهم, أو تجاه زوجته وأبنائه فيحيلحياتهم جحيماً أو يحول غضبه إلى عدوان سلبي يظهر في صورة عناد وسلبيةولامبالاة وكسل وتراخ, أو يتحول إلى فهلوي يلاعب السلطة ويخادعهاويستفيد من سلبياتها ويتعايش معها.
أما
السلطة فإنها تنظر إلى المواطن بتوجس وحذر وترى فيه مخادعاً أو متآمراً
وبالتالي تحتاج لقانون طوارئ يحكمه ويتحكم في نواياه الخبيثة- في نظرها -
التي لا تكفيها القوانين العادية فهو في نظر السلطة ماكر ومخادع يمكنه
الاحتيال على القوانين واستغلال ثغراتها.
هذا التشوه في منظومات القيم هو بالضبط أعراض الحالة التي تعبر عن هشاشة المجتمع وتراجع قيمه الإيجابية، مما يؤدي إلى تعثرمسيرته وتدهور أوضاعه العامة.
ولعل السؤال الذي يتبادر إلي الأذهان الآن هو:
- كيف نخرج من هذه الأزمة القيمية والفوضى الأخلاقية؟!
- ما الحل؟
فحينما ينفرط عقد المجتمع وتسري فيه عوامل التفكك والتشرذم، فلن ينقذه منكل ذلك سوى مشروع واضح المعالم، يحدد ركائز الاستمرار ووجهة السير. وهو أهمما تفتقده مصر في الوقت الراهن.
لقد
قرأنا كتب كثيرة عن اليابان ثاني بلد صناعي وثالث قوة تجارية في العالم
وكيف أنها ورغم انكساراتها قد نهضت وتماسكت، واهتدت إلى سبيل التنمية
والتقدم، فركبت القطار ولحق بها في منظر بديع للغاية دول شرق آسيا المعروفة
بالنمور الآسيوية "كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان"، ثم ماليزيا
فتايلاند فإندونيسيا، ولكن ما يهمنا هنا أنه لولا تلك المنظومة القوية -
منظومة القيم المجتمعية- وذلك الأمل لما عادة تلك الروح لتشق طريقها وتثابر
لأجل مستقبل أفضل، ومع ذلك لم نسمع حتى الآن في مصر إلا ضجيجاً وصراخاً
لا يغني ولا يسمن من جوع، رغم أسهام العديد من العلماء والباحثين والكتّاب
والمفكرين على رأسهم ا.د. علي ليلة أستاذ علم الاجتماع كلية الآداب,
جامعة عين شمس، و ا.د جلال أمين الكاتب والمفكر الكبير أستاذ الاقتصاد
بالجامعة الأميركية و ا.د. محمد إبراهيم منصور مدير مركز الدراسات
المستقبلية بمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء وفريق
بحثه وغيرهم من العلماء والباحثين بالكثير من الدراسات والرسالات
والمقالات التي طرحت مبادئ استرشادية واستراتيجيات مستقبلية يمكن من
خلالها حل الأزمة وتجاوزها, فالكل يعلم مدى الخطورة ويحذرون منذ قديم
الأزل من سيادة الفوضى الأخلاقية ويدركون أن استقرار أي مجتمع وتقدمه إنما
يرتكز علي قيم أخلاقية معينة وثابتة.
حيث
أدركوا عمق العلاقة التي تربط بين الأخلاق والسياسة, تلك العلاقة التي
جعلتهم يؤكدون أن العدالة الاجتماعية هي وحدها المخرج الأساسي من هذه
الأزمة وبها يتم إصلاح المجتمع المدني أخلاقياً وسياسياً أو سياسياً
وأخلاقياً. فحدوث تغيرات أساسية في الهيكل الاقتصادي قد أدى بالتالي إلى
تراجع قضية العدالةالاجتماعية، في الوقت الذي صعدت فيه مفاهيم
ومصطلحات دالة على قضايا أخرى منها "الانفتاح"، و"التحرر الاقتصادي"
و"الإصلاح الاقتصادي" و"الخصخصة".
وتقدمت-
في المقابل- سياسات مكافحة الإرهاب، والتصدي للجريمة المنظمة، وملاحقة
الاتجار في المخدرات، على السياسات التي كانت تسعى لتذويب الفوارق بين
الطبقات، ومحاصرة الفقر، والقضاء على الجهل، والارتفاع بمستوى معيشة
المواطنين، وتحقيق التوازن والعدالة بين الذين لا يملكون والذين يملكون، أو
بين العمال وأصحاب الأعمال.
وعلى
ضوء ذلك فإن غياب العدالة الاجتماعية وفقدانها في ظل اللامبالاة المستمرة
والمنتشرة من قِبل الجميع"الدولة ومسئوليها والمثقفين والمواطن"، وإهمال
كل صوت ينادي بمعالجة هذا الوضع القائم والمتفاقم هو سر أسرار ما نعانيه
من أزمة قيمية وفوضى أخلاقية وسلوكية, ومن ثم فبداية الإصلاح تكون
بالإدراك النظري لأهمية العودة إلي سلم القيم الأصيلةالتي يتمتع بها الإنسان المصري علي كل المستويات ولننتقل من هذا الإدراك النظري لأهمية العدالة الاجتماعية إليالتطبيق العملي لها في حياتنا.
إن
الإنسان إذا وجد القدوة الحاضرة سيعيش تلك الحالة التي تؤكد المفهوم
الشامل للعدالة الاجتماعية، وسينقلب من إنسان فوضوي رافض لقيمه التقليديةومستمتع بالخروج عليها إلي إنسان منتم ومنظم ومحب لكل ما من شأنه إعادة العدالة إلي حياته.
لقد تكلمنا كثيراً، وانتقدنا كثيراً،ولكن ماذا خطونا؟ وماذا عملنا؟
رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدةولا أبالغ إن قلت إننا بحاجة إلي التربية من جديد، ولنيصلح حالنا إلا بالالتفاف حول هدف يوحد الجميع ويثقون فيه، نحن بحاجة إلي التغيير والعدالة الاجتماعية.
لنبدأ العمل ولنترك الكلام، ولنبدأ في تغيير أنفسناً أولاً.
نتمنى من الله أن نجد الدعم والصدى الطيب لنشرع في ذلك.
فإن لم نتكلم نحن, فمن؟
وإن لم نتكلم الآن, فمتى؟
وعلى الله قصد السبيل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق