الحروب القذرة - منتديات غزل وحنين
عام 1982، قرر ديكتاتور الأرجنتين ليوبولدو جالتيري أن يرد فوكلاند إلى عصمة الأرجنتين بالقوة، فأرسل آلاف الجند وعشرات المروحيات ليلبد سماء الجزر الناشزة بدخان أرجنتيني كثيف. وتمكن الرجل في بضع ساعات من إحكام سيطرته على مداخل الجزر ومخارجها وإدخال حاميتها المتمردة بيت الطاعة الأرجنتيني. وبعد ساعات من شن أول غارة، وقف الرجل في شرفة قصره ملوحا للطائفين والعاكفين بأرجاء قصره الجمهوري.
صحيح أن جزر فوكلاند صغيرة نسبيا، إذ لا يتجاوز حجمها الإجمالي اثني عشر ألف كيلومترا مربعا، وأن عدد سكانها قليل للغاية، إذ لم يكن يتجاوز عامها ألفا وثمانمئة نسمة معظمهم يحملون الجنسية البريطانية، وصحيح أن الجزر تبعد أكثر من أربعمئة وثمانين كيلومترا من سواحل البلاد، إلا أنها في النهاية تصلح كموانئ تجارية بفضل موقعها الاستراتيجي المتفرد.
لكن الرجل الذي عرف عهده القصير أسرع وتيرة تراجع للبيزو أمام كافة عملات الأرض، كانت لديه أسباب أكثر وجاهة لتحريك الحشود نحو الجزر المتنازع عليها. فقد واجه الجنرال معارضة بينة من رفاق الانقلاب، مما اضطره إلى التخلص منهم واحدا تلو الآخر، حتى وأنه رفض تعيين رئيس أركان للجيش. ولأنه لم يكن يحب الدساتير، فقد قام بتعطيلها جميعا، كما حل البرلمان وألقى بقادة المعارضة في غياهب المعتقلات، ونكل بقادة الأحزاب قبل أن يأمر بحلها. وقبل أن يوجه الرجل عسكره نحو فوكلاند، أعلنت المعارضة اختفاء ما يناهز الثلاثين "يساري قذر" في ظروف غامضة. وهكذا وجد الرجل نفسه غائصا حتى حقويه في مشكلات داخلية لا يقوى على حلها أو التحلل منها، لهذا قرر تصدير خيباته الكبرى إلى جزر الفوكلاند الصغيرة.
وظن الجنرال جالتيري بحلفائه الأمريكيين خيرا بعد أن رأى بياض أسنانهم وهو يشن حربه القذرة ضد مواطنيه، فتقدم نحو قرار حتفه وفي أذنيه يتردد نداء ريتشارد ألن مستشار الأمن القومي الأمريكي "أيها الجنرال العظيم". ولم يكن ذلك "الجنرال العظيم" يتخيل أن بريطانيا ستتدخل عسكريا لحماية حاملي هوياتها من رعاة الشياه، وظل يظن أن ولاة قهره من الأمريكان سيحمون ظهره حتى أيدت أمريكا رسميا حق بريطانيا في التدخل لحماية رعاياها. وفجأة، سمع الرجل جلبة وصفارات إنذار حول قصره ذكرته بتلك الصافرات التي واكبت جلوسه فوق سدة الحكم قبل ستة أشهر عجاف.
وبعد ساعات، وجد الجنرال العظيم نفسه أمام محكمة عسكرية مكبلا بالأصفاد منكس الهامة كأحقر العبيد ليلقى نفس المصير الذي اختاره لأحقر معارضيه. لم تنفعه أمريكا، ولم يكن لديه عمل صالح يقربه من قلوب الأرجنتينيين زلفى، لهذا لم يجد جالتيري من يحزن عليه حين حوكم بالإعدام رميا بالرصاص، ولم يشاركه أحد فرحه حين تم تخفيف الحكم عنه إلى السجن المشدد، ولم يجد أحدا من الرعية في استقباله عند بوابة السجن يوم قرر الرئيس كارلوس منعم العفو عنه وإخلاء سبيله.
كان الرجل يهرب من أزماته إلى الأمام، ليغطي جرائم الداخل بفظائع الخارج، ولينسي الشعب خيباته، ويغطي عورة فشله الذريع في إدارة شئون البلاد. وظن الرجل أن بمقدوره استمالة قلوب الأرجنتينيين الطيبين ببعض الخطب الرنانة والتصريحات العجفاء، فقاد حربا في عرف القيادة العسكرية مخجلة ليتمكن من رفع كفيه أمام مئات المحتشدين حول بوابات قصره. ولو أنه أدار طرفه أو استدار قليلا لرأى بأم عينه الحشود عند الطرف الآخر من الرأي يتجمهرون تنديدا بحروبه القذرة داخل البلاد وخارجها.
رحل ليوبولدو جالتيري من التاريخ والجغرافيا بعد أشهر معدودة من القمع والقهر والطغيان. رحل جالتيري لتعود الشياه إلى أحراشها ويعود رعاة الفوكلاند إلى قطعانهم ليروا السماء أكثر صفاء والرعي أكثر أمنا. ومن نفس المنعطف التاريخي زحف المواطنون نحو ميادين الأرجنتين ليتنفسوا الحرية ملء رئاتهم المعطلة. هكذا يرحل الطغاة مع أخطائهم ليظل التاريخ عبرة لمن جاء ليعمر الجغرافيا من بعدهم. لكن بعض الناس لا يقرؤون التاريخ إلا وهم ساهون، ويمرون على آياته دون تدبر ودون روية، ليعيدوا كتابة السيناريو بنكهاتهم المحلية ولغاتهم القومية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق