من جديد أستكمل هذه الخواطر التي لا يربطها خيط، أو لا يربطها خيط واضح. محاولة للفهم لا تَعِدُ بتقديم حلول. لقد طرحنا مقولتين في المقال السابق
المقولة الأولى: الحب الملتهب ليس دليلاً كافيًا على أن الزواج سينجح، بل هو على الأرجح دليل ضد ذلك. الشرر الملتهب المتفجر يموت سريعًا فلا يبقى إلا الرماد، بينما الدفء المنتظم الهادئ أقرب للبقاء.. أقرب للنمو
المقولة الثانية: ليست هذه دعوة لزواج الصالونات كذلك؛ فالذي يتزوج في تلك الحالة هما الأسرتان: طانط (فيفي) تتزوج من طانط (عظيمة). زميل لي ساخر سليط اللسان ذهب ليرى عروسًا بهذه الطريقة، وظل طيلة الجلسة يكتم رغبه جنونية في الضحك
الموقف بدا له مجردًا كما يلي: هذا هو حمارنا جئنا لنزوّجه من حمارتكم.. من الذي سيُحضر البرسيم؟ من الذي سيعدّ الزريبة لهما؟ في النهاية تزوج بهذه الطريقة، لكن سخرية الموقف لم تغِبْ عنه لحظة
لا توجد حلول جاهزة سهلة، وإلا لامتلأ المجتمع بالسعداء. الأمر بالفعل يحتاج إلى الكثير من التدقيق والتمهل ومراجعة الذات وسعة الخيال، لكن الوردة المجففة في الكتاب، والدباديب، ورسائل الموبايل ليست دليلاً كافيًا
كان الرأسان متلامسين لكائنين ذابا في بعضهما، فلم يعودا يعرفان أين هما، وقد جلسا هناك على حافّة الإفريز يتهامسان، وقد اتخذ كل منهما من كراس المحاضرات مقعدًا صغيرًا يتّقي به الغبار
كنا جوار إحدى الكليات، فعرفت يقينًا أنهما حبيبان فرّا من المحاضرة وجلسا هنا يتناجيان.. عند العودة مساءً للبيت سوف تنهال شتائمها على رأس جدول المحاضرات المزدحم، وينهال الفتى بالسباب على أسعار الكتب التي تستنزف ميزانيته كل يوم
كنت مع صديقي في سيارته الفاخرة نمرّ جوارهما، وبالطبع كنا نرمقهما في فضول؛ لأننا في مصر ولسنا في النرويج. هنا حدث شيء غريب.. لقد أدارت الفتاة رأسها ونظرت لنا في عيوننا بدلال، وضحكت كأنها تبعث رسالة صامتة.. تلك الضحكة بالذات لم يرَها العاشق المتيّم
هذه فتاة عملية جدًا.. هناك وقت للعبث، وتبادل العواطف المخزونة، لكنها بالتأكيد مسرورة؛ لأن صديقي سائق السيارة ذا الشعر الأبيض ينظر لها، إذن عندما ينتهي وقت العبث سيكون من السهل عليها أن تجد عريسًا من هذا الطراز، وليذهب العاشق الولهان إلى الجحيم
هذا طراز من الفتيات اللاتي قررن ألا يضيّعن أي شيء
نشوة الحب كما نراه في وسائل الإعلام
والظفر بزوج مناسب ثقيل الدم والكرش والجيب
في مقال رائع للصديقة (دعاء سلطان) لاحظتْ في ذكاء أن كل فنانة غير متزوجة يلتقون بها في صحيفة أو قناة تليفزيونية تقول: “لا يهمني في عريس المستقبل أن يكون وسيمًا ولا أن يكون غنيًا.. المهم أن يحبني حقًا!”. ثم ترى صور زفافها بعد أشهر، فتجدها واقفة جوار رجل الأعمال الملياردير فلان الفلاني الشبيه بكتلة من الزبد، ومن المؤكد من ملامحه أنه لا ولن يحبها حقًا!.. هذه واحدة أخرى عملية تعرف أن هناك وقتًا للعبث وكلامًا يقال للصحف، لكن وقت الزواج لا مكان للفقراء
هل الحب لا وجود له؟ هل هو مجرد حالة تقمص نفسية لإرضاء الهرمونات الثائرة كبركان؟
كان هناك مقطع ساحر للشاعر “دانتي أليجيري” يقول: “ولكم بدت حبيبتي رقيقة عفيفة عندما راحت تقرئ الناس السلام”ـ
يتحدث عن بياتريس حبيبته التي ماتت في سنّ الشباب طبعًا. قرأت هذا المقطع في مراهقتي الأولى، وأعتقد أن مراهقتي تتلخص في عبارة (البحث عن بياتريس).. العذراء الرقيقة البتول التي تموت في سن الأزهار، ويقضي الشاعر حياته في التشبيب بها، بل ويتخيل أنها مرشدته في العالم الآخر
وكنت عندما أكتب الشعر أتعمد أن يكون رقيقًا، فأحشر فيه كل ما في العالم من بنفسج، وأنسام، وعبير، وريحان، وليل، وغروب في بيت واحد… لم أر كل هذه الرياحين تتواجد في مكان واحد في العالم سوى قصائدي. الجو النفسي الساحر الذي تبعثه الكلمات.. أية فقرة تحوي (عبق) و (بلّور) و (أزرق) و (نافورة) تبعث الراحة في النفس قبل أن تستوعب الفقرة ذاتها
في سن المراهقة والشباب يصبو الناس للحب بشدة. الحب كما تعلمناه من الشعر والسينما والروايات، حيث هناك أزهار –الكثير منها– وغروب، وندى، وأنسام ليل، وشعر، ولوعة. في أوائل الثمانينيات قامت مجلة “صباح الخير” بنشر بيانات عن فتاة مصرية سمراء جميلة تقيم في لندن، وترغب في عريس مصري مناسب، ثم خصصت العدد التالي لقراءة ما وصل المجلة من عروض زواج والسخرية منه
الحقيقة أنه لم يكن تصرفًا غاية في النزاهة، لكنهم على الأقل لم يذكروا أسماء أصحاب الخطابات. لاحظ المحرر أن معظم الخطابات انهال على رأس الفتاة بعبارات الغزل والرومانسية، وقد كان الفارق الوحيد بين خطاب وآخر هو قدرة صاحبه اللغوية: النتيجة التي توصَّل لها المحرر هي أن هناك مخزونًا هائلاً من العواطف في القلوب يتوق الشباب لإخراجه في أية مناسبة دون اقتناع حقيقي، وقد ظهرت الفتاة للمرة الأولى في الصور، وهي تطالع هذه الخطابات وقد بدت راضية عن نفسها جدًا، برغم أنها لم تتلقَّ خطابًا واحدًا في الحقيقة.. الخطابات موجَّهة لفكرة الحب ذاتها
الناس تتوق لممارسة طقوس الحب.. ذات مرة رأيت عاشقين يقفان أمام البحر يرمقان الغروب، فأقسمت لنفسي أنهما لا يريدان ذلك ولا يشعران بأية متعة.. فقط يريدان أن يحبا بالطريقة التي أخبرتهما بها السينما. سوف يمنحهما الحب ساعات ممتعة من العذاب والشكوى؛ لأن الحياة قاسية.. وسوف يجلسان مهمومين ساعات طويلة في الكافتيريا. الفتاة ستحكي مشكلتها لكل الناس، وترسل لكل أبواب (لمشكلتك حل)، فهي فخورة فعلاً بأن (لها مواضيع)ـ
وسائل الإعلام ليست وحدها مصدر الضغط الوحيد على الشباب، فمصر لها وضع فريد حقًا. إنها بلد محافظ إلى أقصى درجات المحافظة، ومنفلت إلى أقصى درجات الانفلات. هناك شوارع تشعر فيها أنك في كابول، وشوارع تشعر فيها أنك في الدانمارك. والنتيجة هي عدم الاستقرار العاطفي، والكثير من الضغوط. هذا الخليط الغريب من الكبت الذي تتخلله لحظات تحرر يؤدي لتجارب مريرة، مثل التي مرت بها في أواخر الستينيات مديرة الرقابة (اعتدال ممتاز)؛ عندما عرضت فيلم “تكبير”ـBlowup كاملاً كما هو. وامتدح نقاد كثيرون قرارها الذي يعترف بنضج المشاهد المصري. كانت النتيجة هي أن الناس حطّموا دار السينما ليس من الغضب بل من فرط الانفعال، وتم وقف عرض الفيلم بعد يومين
هل الحب لا وجود له؟ هل هو مجرد حالة تقمّص نفسية لإرضاء الهرمونات الثائرة كبركان؟
للأسف لا توجد حيل جاهزة لمعرفة حقيقة مشاعرك، ولا يوجد اختبار معملي يساعدك على التأكد. هناك نصائح متناثرة مثل نصيحة برنارد شو التي تقضي بأن يسأل المرء نفسه إن كان قادرًا على استعمال فرشاة أسنان حبيبته!.. طبعًا ليست طريقة محببة جدًا، وأرى فيها بعض المبالغ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق