المنسيون عند الحدود - منتديات غزل وحنين
المنسيون عند الحدود
المنسيون عند الحدود
في مخيمات الشتات، وعلى أطراف مدن الممانعة، يستطيع اليوم أطفال سوريا أن يمارسوا لهوهم البرئ في عالم لم يعد كذلك، لكنهم لا يستطيعون تدوين ذكرياتهم الأليمة هناك لأنهم تركوا أوراقهم في مدن القصف تحت مخلفات المدارس، ولم يجدوا من يلتقط أقلامهم التي لم يشتد عودها بعد لأن معلميهم لاذوا قبلهم بالفرار.
ولا يستطيع أطفال سوريا عند الحدود أن يرسموا ذكرياتهم الأليمة فوق الجدران، لأن مخيماتهم المنصوبة فوق رمال التاريخ العربي الناعمة لا جدران لها.
في مجدل عنجر، وعلى طريق كانت تربط خاصرة سوريا بقلب لبنان ذات عروبة، يصارع أنس صاحب الثلاثة عشر خريفا الوحل والبرد والمطر لينال قسطا غير كاف من تعليم غير إلزامي في خيمة تمتد بحجم المحيط فوق حدود المقاومة.
وفي خيمة لا تتسع لخريفه الثالث عشر، يزاحم أنس عشرين طفلا على حروف مقطعة كأوصال خريطته الشامية، ليضعها في فراغ عبثي لا يليق بذكائه المتقد. على حدود النسيان، يفترش أنس خيمة عربية باردة، ليمسك بفرشاة غمست إحدى خصلاتها في دماء ماض كئيب، وتخثرت الأخرى في شرايين مستقبل لا يعلمه أصحاب الحروب المقدسة ولا المرابطون عند حدود الهزيمة. وعلى أضواء الزمن الباهت، ينقش طفل امتلأت ذاكرته المؤقتة بأحداث جلل حروف الضاد من جديد وكأنه لم يغادر سنوات ما قبل المهانة.
ومع ثلة من الواقفين على أعتاب المجهول، يحتفل أنس بربيع سوري ثالث لم يترك في فصول بلاده إلا الحدود المكتظة بالهاربين. لكن الطفل يقاوم بما تبقى له من وعي كي لا يتمكن الزهايمر العربي من محو تفاصيل كيانه الهش من مدن التاريخ المقفرة.
ولأنه لا يملك رفاهية التحدث أمام الكاميرات الموجهة، يحاول أنس أن يمسك بما تبقى في يديه من عشب حتى لا يسقط من فوق الخارطة ويطويه النسيان. "إنهم يأتوننا كل يوم مع ذويهم متوسلين ليلتحقوا بمدارسنا النظامية،" تقول عطاف سيف عبد الصمد مديرة إحدى المدارس ببيروت. لكن مدارس لبنان لا تستطيع أن تصلح ما أفسدته سياسات العرب، ولا تستطيع فصولها الضيقة أن تستوعب ما عجزت عن استيعابه كل الخرائط المهشمة من المحيط إلى الخليج.
"لقد فقد السوريون كل ضِياعهم هناك،" تقول المرأة، "ولم يتبق أمامهم شيء يراهنون عليه إلا مستقبل أطفالهم."
لا أعرف إن كان في مصير أنس ورفاقه ما يستحق الرهان لا سيما بعد أن تحولت حلبات السباق العربية إلى ميادين رماية، وبعد أن صارت المدارس ثكنات عسكرية. لكن الشمس التي تشرق كل يوم فوق مفاصل التاريخ الباردة تمنحهم دفئا وصلابة رغم ظروف المنافي غير الآدمية.
أطفال سوريا موزعون اليوم على خرائط لا زالت تردد أناشيد الوحدة في مدارسها المكتظة كل صباح، لكنهم لا يسمح لهم بالوقوف في طوابير الصباح العربية. ففي لبنان والأردن وتركيا والعراق ومصر يقف حوالي نصف مليون طفل سوري (ناهيك عن الأعداد التي لم ترصدها كاميرا اليونيسيف) على حدود أمية مخيفة تزيد حتما من الرهان على بقائنا المستفز في مربع الأمم البائدة. لكن الكثيرين من أطفال سوريا لا زالواينظرون من تحت ركام مدنهم المهدمة بعين الغبطة لفتى استطاع أن يهرب بجسده الصغير من حمم لا تفرق بين اللحم الطري وقديد الأسمنت. وفي وقت يهدم الباقون تحت القصف جدران منازلهم من أجل جرعة ماء أو قطعة خبز يابسة، يمتلك أنس رفاهية الجلوس الحر في معطف دافئ فوق سجادة مزركشة، وإن فوق أرض قابلة للانفجار عند أول تصريح.
كان أنس في الصف الرابع في مدرسة ابتدائية بحمص، لكن جدرانها الملونة سقطت بعد انتهاء حصار خانق فوق الطاولة وبعض الرفاق مما اضطر أنس إلى العودة آسفا إلى حدود حروف الهجاء ليبقى على صلة بضاد لم تحمها الحدود ولا جيوش الممانعة. "كانت مدرستي رائعة، ذات أبواب وطاولات وجدران .. وكان لي أصدقاء،" يقول أنس
. لا يعرف أحد متى تنتهي مأساة أنس ورفاقه، ولا يعرف السائرون فوق دروبنا الربيعية الكاذبة نهاية لمواسم الحزن الطفولية فوق الحدود الشائكة. لكننا جميعا ندرك أن معدلات الأمية والفقر والمرض تزداد في بلادنا بشكل مخيف وتمتد من الحدود إلى الحدود ولا تستثني بلدا عربيا غشيته حمى الثورات، وتنذر القادمين نحو المستقبل بأبجدية عاجزة لا تسمن ولا تغني من تخلف وهمجية. ونعرف أن أنس ورفاقه المحشورين عند حدود النسيان ليسوا مجرد ضريبة لأي غاية نبيلة، ولكنهم قنابل موقوتة ستنفجر حتما في مصير أمة لا تجيد من تكنولوجيا العصر إلا حروف الهجاء
عبد الرازق أحمد الشاعر
في مخيمات الشتات، وعلى أطراف مدن الممانعة، يستطيع اليوم أطفال سوريا أن يمارسوا لهوهم البرئ في عالم لم يعد كذلك، لكنهم لا يستطيعون تدوين ذكرياتهم الأليمة هناك لأنهم تركوا أوراقهم في مدن القصف تحت مخلفات المدارس، ولم يجدوا من يلتقط أقلامهم التي لم يشتد عودها بعد لأن معلميهم لاذوا قبلهم بالفرار.
ولا يستطيع أطفال سوريا عند الحدود أن يرسموا ذكرياتهم الأليمة فوق الجدران، لأن مخيماتهم المنصوبة فوق رمال التاريخ العربي الناعمة لا جدران لها.
في مجدل عنجر، وعلى طريق كانت تربط خاصرة سوريا بقلب لبنان ذات عروبة، يصارع أنس صاحب الثلاثة عشر خريفا الوحل والبرد والمطر لينال قسطا غير كاف من تعليم غير إلزامي في خيمة تمتد بحجم المحيط فوق حدود المقاومة.
وفي خيمة لا تتسع لخريفه الثالث عشر، يزاحم أنس عشرين طفلا على حروف مقطعة كأوصال خريطته الشامية، ليضعها في فراغ عبثي لا يليق بذكائه المتقد. على حدود النسيان، يفترش أنس خيمة عربية باردة، ليمسك بفرشاة غمست إحدى خصلاتها في دماء ماض كئيب، وتخثرت الأخرى في شرايين مستقبل لا يعلمه أصحاب الحروب المقدسة ولا المرابطون عند حدود الهزيمة. وعلى أضواء الزمن الباهت، ينقش طفل امتلأت ذاكرته المؤقتة بأحداث جلل حروف الضاد من جديد وكأنه لم يغادر سنوات ما قبل المهانة.
ومع ثلة من الواقفين على أعتاب المجهول، يحتفل أنس بربيع سوري ثالث لم يترك في فصول بلاده إلا الحدود المكتظة بالهاربين. لكن الطفل يقاوم بما تبقى له من وعي كي لا يتمكن الزهايمر العربي من محو تفاصيل كيانه الهش من مدن التاريخ المقفرة.
ولأنه لا يملك رفاهية التحدث أمام الكاميرات الموجهة، يحاول أنس أن يمسك بما تبقى في يديه من عشب حتى لا يسقط من فوق الخارطة ويطويه النسيان. "إنهم يأتوننا كل يوم مع ذويهم متوسلين ليلتحقوا بمدارسنا النظامية،" تقول عطاف سيف عبد الصمد مديرة إحدى المدارس ببيروت. لكن مدارس لبنان لا تستطيع أن تصلح ما أفسدته سياسات العرب، ولا تستطيع فصولها الضيقة أن تستوعب ما عجزت عن استيعابه كل الخرائط المهشمة من المحيط إلى الخليج.
"لقد فقد السوريون كل ضِياعهم هناك،" تقول المرأة، "ولم يتبق أمامهم شيء يراهنون عليه إلا مستقبل أطفالهم."
لا أعرف إن كان في مصير أنس ورفاقه ما يستحق الرهان لا سيما بعد أن تحولت حلبات السباق العربية إلى ميادين رماية، وبعد أن صارت المدارس ثكنات عسكرية. لكن الشمس التي تشرق كل يوم فوق مفاصل التاريخ الباردة تمنحهم دفئا وصلابة رغم ظروف المنافي غير الآدمية.
أطفال سوريا موزعون اليوم على خرائط لا زالت تردد أناشيد الوحدة في مدارسها المكتظة كل صباح، لكنهم لا يسمح لهم بالوقوف في طوابير الصباح العربية. ففي لبنان والأردن وتركيا والعراق ومصر يقف حوالي نصف مليون طفل سوري (ناهيك عن الأعداد التي لم ترصدها كاميرا اليونيسيف) على حدود أمية مخيفة تزيد حتما من الرهان على بقائنا المستفز في مربع الأمم البائدة. لكن الكثيرين من أطفال سوريا لا زالواينظرون من تحت ركام مدنهم المهدمة بعين الغبطة لفتى استطاع أن يهرب بجسده الصغير من حمم لا تفرق بين اللحم الطري وقديد الأسمنت. وفي وقت يهدم الباقون تحت القصف جدران منازلهم من أجل جرعة ماء أو قطعة خبز يابسة، يمتلك أنس رفاهية الجلوس الحر في معطف دافئ فوق سجادة مزركشة، وإن فوق أرض قابلة للانفجار عند أول تصريح.
كان أنس في الصف الرابع في مدرسة ابتدائية بحمص، لكن جدرانها الملونة سقطت بعد انتهاء حصار خانق فوق الطاولة وبعض الرفاق مما اضطر أنس إلى العودة آسفا إلى حدود حروف الهجاء ليبقى على صلة بضاد لم تحمها الحدود ولا جيوش الممانعة. "كانت مدرستي رائعة، ذات أبواب وطاولات وجدران .. وكان لي أصدقاء،" يقول أنس
. لا يعرف أحد متى تنتهي مأساة أنس ورفاقه، ولا يعرف السائرون فوق دروبنا الربيعية الكاذبة نهاية لمواسم الحزن الطفولية فوق الحدود الشائكة. لكننا جميعا ندرك أن معدلات الأمية والفقر والمرض تزداد في بلادنا بشكل مخيف وتمتد من الحدود إلى الحدود ولا تستثني بلدا عربيا غشيته حمى الثورات، وتنذر القادمين نحو المستقبل بأبجدية عاجزة لا تسمن ولا تغني من تخلف وهمجية. ونعرف أن أنس ورفاقه المحشورين عند حدود النسيان ليسوا مجرد ضريبة لأي غاية نبيلة، ولكنهم قنابل موقوتة ستنفجر حتما في مصير أمة لا تجيد من تكنولوجيا العصر إلا حروف الهجاء
عبد الرازق أحمد الشاعر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق