الفن بين التحرر وقيد الشرع - منتديات غزل وحنين

الفن بين التحرر وقيد الشرع - منتديات غزل وحنين

 
الفن بين التحرر وقيد الشرع





















الفن بين التحرر وقيد الشرع

كنت فى مدينة السويس فى أواخر عقد
السبعينات ، وكنت ـ ولم أزل ـ مغرماً بفن الرسم ، ّ وبلغت الهواية عندى
درجة الاحتراف ، وما وجدت محلاً أو معرضاً يعرض اللوحات الفنية ، إلاّ
أطلت الوقوف أمامه ، غير عابىء بما انقضى من وقتى وأنا فى حال الاستغراق
والشغف بالمعروض .. وفى مرّة تجرأت واقتحمت أحد المحلات ، وقدمت نفسى
لمدير المحل ، وعرضت عليه شيئا من مواهبى ، وكان مدرساً فى كلية الفنون ،
فأثنى على ّ ملياً ، بما أخجل تواضعى ، وأبدى استعداداً صادقا ً لعرض
رسوماتى بلا مقابل حتى تباع ، وكان أمراً مشجعا ً من ذى خبرة ، وما أن
هممت بالانصراف ، حتى استوقفنى برهة ، قائلاً إذا كنت تقصد التربح من
رسوماتك ، فأنصح لك ، أن تبتعد عن رسم المناظر الطبيعية ، لأنّ "
الزبائن " لايقبلون عليها ، وهذه اللوحات المعروضة التى جذبتك إلينا ، لم
تتزحزح من مكانها لأكثر من سنة ، قلت : فماذا تريدنى أن أرسم ؟ .. قال :
سأعرض عليك ما يريده الجمهور، وليس ما أريده أنا ، وأزاح الستار عن (
بورتريهات ) لنساء عاريات فى اوضاع فاتنة ، منها ما كان فى غاية الإتقان
ومنها دون ذلك ، ثم أردف قائلاً : ذلك المطلوب ، وكلّه يباع .. قلت :
ولكن .. ؟ ! .. قال : نعم ( ولكن ! ) فتلك لغة السوق .. لم اعلّق بشىء
أكثر من قيلى : شكرا ..ً وانصرفت .. وانا أقول لنفسى بئس الانحراف فى
الاحتراف .. وكنت أعرف أنّ الرسم على وجه العموم مثار جدل بين الفقهاء ،
وفيه شبهة التحريم ، وكثر الكلام فيه والرأى ، مع أنّه حاسة فطرية
رائعة ، واعنقادى الرّاسخ أنّ الإسلام لا يتصادم مع الفطرة ، لذا فقد
كانت عندى قناعة أن الرسّام ( المسلم ) يستطيع التمييز بين الحلال
والحرام فى الرسم ، والأمر فى غاية البساطة ، فما لم يقصد به أو يوحى
بالفتنة وسوء الأدب مع عقيدة التوحيد ، فهو حلال .. ولا شكّ أنّ ذاك
الفنان كاك يدرك ذلك ، ومن ثمّ عرض ما رآه حلالاً ، وأخفى ما رآه حراماً ..
ربما ً حفاظاً على الحياء العام ، وربما لأن القانون كان يمنع ذلك آنذاك
.. ويرى أكثر الفنانين أنهم إذا التزموا بهذه القيود الشرعية ، فسوف يهدرون
جانبا ً كبيراً من فن الرسم أو التصوير ، وإنما تتصاعد درجة التحريم
كلّما كان التصوير عارياً ومجسماً ( فى شكل تماثيل ) أو منحوتاً فى مادة
تبرز عورة الجسد البشرىّ ، تلك هى نقطة الصدام بين الشرع والفن ، وسوف نجد
نقاط صدام أخرى فى كلّ مجالات الحياة المتحررة ( فى السينما والموسيقى وفى
الصناعة وفى المعاملات التجارية عامّة وفى البنوك خاصة ، وفيما يسمى الفن
التعبيرىّ ، والرقص ، والاختلاط .. وغير ذلك .. ) ومن ثمّ فإن العالم (
الليبرالىّ ) ـ الذى اعتمد الإباحية المطلقة فى التعبير ـ منهاجاً للتطوُّر
فى هذا العصر ، يرفض قيود الإسلام .. وفى المقابل فإن الإسلام يرفض حضارة
الإباحية . لأنّ شريعة الإسلام تدعو إلى الكمال الخلقىّ فى كلّ شىء ، وذلك
ما يميّزه عن غيره من الحضارات ، إلاّ أنّ الإسلام كان أكثر مرونة من هذه
الحضارات العارية أخلاقياً ، فسمح أهل الفتوى بأنصاف التماثيل التى لا تبرز
المفاتن ، ولا تثير الغرائز ، ويستحيل معها الحياة إن جرت الدماء ( جدلاً
) فى أوصالها ، وسمحوا بالصور الفوتوغرافية والتى لا ظلّ لها ، ما كانت
هناك ضرورة ، وما لم يكن بها عيب أخلاقى ّ ، وقيّدوا من المعاملات ما يثبر
شبهة الرّبا ، وأيَّدوا التمثيل الهادف الذى يؤدى رسالة تربوية فى غير مجون
وابتذال ، حتى الغناء ، كان رأى الإمام محمّد الغزالى ( رحمه الله ) فيه
منصفاً حين قال : " ما الأغنية ؟ .. الأغنية : كلمات ولحن وأداء ، فإذا
كانت الكلمات هادفة ، وكان اللحن لائقاً وكان الأداء متزناًً ، صارت
الأغنية حلالاً ، وإن اختل شرط من هذه الشروط كانت الأغنية حراما ً ، فأنا
اسمع أغنية " يا سماء الشرق " وملحنها ومغنيها محمد عبد الوهاب ، فأطرب لها
، ونفس الملحن والمغنّى أسمعه يغنى " كليوباترا " فأغلق المذياع .. وعلى
ذلك فى كلّ اختلاف ، فمن عرف الخطوط الحمراء فى الشريعة ، عرف نظافة هذه
الحضارة الإسلامية ، ومن لاّ يعرف اتهمها بأنها لا تواكب التطور الحضارى ،
بيد أن الانسياق وراء الإباحية والرذيلة عين التأخر والتخلّف .. والحضارة
اللاّئقة بالإنسان ، تنبع من العفة والتستر ، وليست فى الفجور والتعرّى
....

هدانا الله وإياكم سواء السبيل ..... والسلام

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق