ديمقراطية عاطف
وسط حشد من المتظاهرات واللافتات، وقفت راشيل جانو - امرأة في ريعان غضبها - أمام الكاميرا وقد عقفت إبهامها ورفعت السبابة وأخواتها تنديدا بأحداث رابعة.
وفجأة، تقدم نحوها متمرد مصري قادم من أقاصى يسار الغضب، فخلع رايتها التي رُشقت في عقب الميدان وألقاها مع وابل من السباب في وجهها المحتقن.
ولو أن حدثا كهذا وقع في قلب قاهرة المعز أو في فقرات ذيلها المنسية لما تحرك أحد ليلجم غضب الثائر عاطف لا سيما وقد حباه الله بمنكبين أعرض من بعض شرايين النيل في بلادنا.
لكن ما حدث لم يكن يخطر على بال أبي العينين مطلقا، فقد وجد الرجل نفسه فجأة بين شرطيين لا يقلان ضخامة وغضبا.
وفي أقل من ثانية، التصق صدر عاطف أبو العينين بالجدار وصفدت يداه واقتيد مكبلا نحو أقرب دائرة شرطية ليدفع عن نفسه اتهامات بالعنصرية وإثارة الكراهية.
مأساة عاطف وغيره من متهوري الثورة أنه أحسن الظن بثقافته المحدودة وقراءاته الضحلة، وصدق أن ما يحدث في بلادنا من اعتداءات باللفظ والحجر والمولوتوف والأسلحة البيضاء غيض من فيض الديمقراطية التي انسابت فوق خرائطنا العربية فجأة. ومصيبته أنه ظن بالإعلاميين الذين يباركون الخروج على أصحاب الرأي والفكر المعارض بالساطور والخنجر خيرا، فوقع في شر معتقداته الفاسدة، وأتته شرطة نيوجيرسي من حيث لا يحتسب، وجر على ثوراتنا التي كانت ربيعية حتى حين القيل والقال، وأشمت بثقافتنا كل قاص ودان.
ولو تأني عاطف، لفكر ألف مرة قبل أن ينزع الراية من غمدها ويلقيها في وجه راشيل، لأنه قد يتعرض لغرامات لا يستطيع تدبيرها رفاقه في السكن أو المتعاطفون مع قضيته من المغتربين هناك. فقانون أمريكا لا يحب المزاح، وشرطتها لا تفتح الأدراج استجلابا للرزق.
وليس هناك امكانية للاتصال بأحد المعارف أو إخراج بطاقة تحمل اسم عقيد إو عميد في الشرطة أو الجيش، ولن يستطيع محام هناك أن يحتال لسرقة ملفه من قسم الشرطة وإن أنفق ملء الأرض ذهبا. فقانون أمريكا ليس قانون زينب، وضمائر قضاتها ليست للبيع أو للإيجار. وديمقراطية أمريكا ليست كديمقراطيتنا وإن تشابهتا في الشعارات واللافتات.
صحيح أننا استوردنا من التاجرة رايس أحلامنا وهتافاتنا المليونية ودقات أحذينا فوق أرصفة الميادين، لكن ديمقراطيتنا صنعت في مصر رغم كل الأموال التي ضخت وتذاكر الطيران التي وزعت بالمجان على ثلة من الحالمين وكثير من المتاجرين بمستقبل البلاد. ففي أمريكا، تستطيع أن تقف أمام البيت الأبيض منددا بالرئيس وحكومته ومستشاريه، وتستطيع أن تقف أمام شرفه بيته الأبيض ملوحا بأصابعك في أي اتجاه تشاء، لكن ليس من حقك أبدا تهاجم رجلا يحمل فكرا مغايرا أو دينا مغايرا أو لافتة كُتِب عليها ما يسيء.
فحريتك عاجزة تماما عن تجاوز حدود رأيك، أما أن تغتر بكتفيك كما فعل عاطف، فاعلم أنك لن تخرج من قسم الشرطة محمولا على الأعناق لترشح نفسك في انتخابات مجلس شعب أو شوري، وحتما لن تحمل حقيبة وزارية أو جوازا خاصا.
صحيح أن الأمر في بلادنا يفوق طاقة داخلية نيوجيرسي وأخواتها، حيث ينتشر آلاف المتمردين فوق أرصفة بلادنا كباعة جائلين في انتظار أي صوت يرفع أو راية تهتز، وصحيح أنهم لا يجاهرون بأكتافهم كما فعل المأسوف على ثقافته عاطف، إذ أن لديهم كافة أنواع الأسلحة البيضاء والسوداء، ولديهم كافة الصلاحيات باستعمالها، وصحيح أن استخدام العنف أصبح اليوم مقبولا، بل مشروعا ومستحبا ومباركا من قبل كثير من الإعلاميين الداعمين للمسار الديمقراطي، إلا أن سواعد شرطيي نيوجيرسي كفيلة بإلصاق صدور المعتدين على المتظاهرين السلميين بأقرب حائط وإن طال الأمد، فحقوق المدنيين لا تسقط في نيوجيرسي بالتقادم وإن أغفلها القضاة دهرا.
ديمقراطينا يا أبا العينين لا تعيش إلا في مخادع الحكام، ولا تضاجع إلا من يملك مفاتيح السجون والمعتقلات وبوابات الحدود. ديمقراطية مطعون في حياديتها ونزاهتها وعفتها لأنها مستوردة ممن يبيعوننا القمح المسرطن والأعلاف الفاسدة والأطعمة منتهية الصلاحية، وعرابوها منتفعون أفاقون يقتاتون من هز خصرها في باحات الوطن الماجنة.
ديمقراطيتنا أيها المصري البائس ديمقراطية البذاءة والصفاقة والعنف، أما ديمقراطية ميدان التايمز، فلها أحكام أخر، وعلى المسافرين إلى ديار الديمقراطية المقدسة أن يخلعوا نعال همجيتهم المتوارثة حتى لا يسيئوا إلى الوطن أكثر، فديمقراطيتنا قد أزكمت الأنوف برائحة دمائها وعنفها وقساوة أهلها.
ومعذرة أيتها الراشيل، فثقافتنا لا تحتمل الرايات المعارضة.
عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمارات
وسط حشد من المتظاهرات واللافتات، وقفت راشيل جانو - امرأة في ريعان غضبها - أمام الكاميرا وقد عقفت إبهامها ورفعت السبابة وأخواتها تنديدا بأحداث رابعة.
وفجأة، تقدم نحوها متمرد مصري قادم من أقاصى يسار الغضب، فخلع رايتها التي رُشقت في عقب الميدان وألقاها مع وابل من السباب في وجهها المحتقن.
ولو أن حدثا كهذا وقع في قلب قاهرة المعز أو في فقرات ذيلها المنسية لما تحرك أحد ليلجم غضب الثائر عاطف لا سيما وقد حباه الله بمنكبين أعرض من بعض شرايين النيل في بلادنا.
لكن ما حدث لم يكن يخطر على بال أبي العينين مطلقا، فقد وجد الرجل نفسه فجأة بين شرطيين لا يقلان ضخامة وغضبا.
وفي أقل من ثانية، التصق صدر عاطف أبو العينين بالجدار وصفدت يداه واقتيد مكبلا نحو أقرب دائرة شرطية ليدفع عن نفسه اتهامات بالعنصرية وإثارة الكراهية.
مأساة عاطف وغيره من متهوري الثورة أنه أحسن الظن بثقافته المحدودة وقراءاته الضحلة، وصدق أن ما يحدث في بلادنا من اعتداءات باللفظ والحجر والمولوتوف والأسلحة البيضاء غيض من فيض الديمقراطية التي انسابت فوق خرائطنا العربية فجأة. ومصيبته أنه ظن بالإعلاميين الذين يباركون الخروج على أصحاب الرأي والفكر المعارض بالساطور والخنجر خيرا، فوقع في شر معتقداته الفاسدة، وأتته شرطة نيوجيرسي من حيث لا يحتسب، وجر على ثوراتنا التي كانت ربيعية حتى حين القيل والقال، وأشمت بثقافتنا كل قاص ودان.
ولو تأني عاطف، لفكر ألف مرة قبل أن ينزع الراية من غمدها ويلقيها في وجه راشيل، لأنه قد يتعرض لغرامات لا يستطيع تدبيرها رفاقه في السكن أو المتعاطفون مع قضيته من المغتربين هناك. فقانون أمريكا لا يحب المزاح، وشرطتها لا تفتح الأدراج استجلابا للرزق.
وليس هناك امكانية للاتصال بأحد المعارف أو إخراج بطاقة تحمل اسم عقيد إو عميد في الشرطة أو الجيش، ولن يستطيع محام هناك أن يحتال لسرقة ملفه من قسم الشرطة وإن أنفق ملء الأرض ذهبا. فقانون أمريكا ليس قانون زينب، وضمائر قضاتها ليست للبيع أو للإيجار. وديمقراطية أمريكا ليست كديمقراطيتنا وإن تشابهتا في الشعارات واللافتات.
صحيح أننا استوردنا من التاجرة رايس أحلامنا وهتافاتنا المليونية ودقات أحذينا فوق أرصفة الميادين، لكن ديمقراطيتنا صنعت في مصر رغم كل الأموال التي ضخت وتذاكر الطيران التي وزعت بالمجان على ثلة من الحالمين وكثير من المتاجرين بمستقبل البلاد. ففي أمريكا، تستطيع أن تقف أمام البيت الأبيض منددا بالرئيس وحكومته ومستشاريه، وتستطيع أن تقف أمام شرفه بيته الأبيض ملوحا بأصابعك في أي اتجاه تشاء، لكن ليس من حقك أبدا تهاجم رجلا يحمل فكرا مغايرا أو دينا مغايرا أو لافتة كُتِب عليها ما يسيء.
فحريتك عاجزة تماما عن تجاوز حدود رأيك، أما أن تغتر بكتفيك كما فعل عاطف، فاعلم أنك لن تخرج من قسم الشرطة محمولا على الأعناق لترشح نفسك في انتخابات مجلس شعب أو شوري، وحتما لن تحمل حقيبة وزارية أو جوازا خاصا.
صحيح أن الأمر في بلادنا يفوق طاقة داخلية نيوجيرسي وأخواتها، حيث ينتشر آلاف المتمردين فوق أرصفة بلادنا كباعة جائلين في انتظار أي صوت يرفع أو راية تهتز، وصحيح أنهم لا يجاهرون بأكتافهم كما فعل المأسوف على ثقافته عاطف، إذ أن لديهم كافة أنواع الأسلحة البيضاء والسوداء، ولديهم كافة الصلاحيات باستعمالها، وصحيح أن استخدام العنف أصبح اليوم مقبولا، بل مشروعا ومستحبا ومباركا من قبل كثير من الإعلاميين الداعمين للمسار الديمقراطي، إلا أن سواعد شرطيي نيوجيرسي كفيلة بإلصاق صدور المعتدين على المتظاهرين السلميين بأقرب حائط وإن طال الأمد، فحقوق المدنيين لا تسقط في نيوجيرسي بالتقادم وإن أغفلها القضاة دهرا.
ديمقراطينا يا أبا العينين لا تعيش إلا في مخادع الحكام، ولا تضاجع إلا من يملك مفاتيح السجون والمعتقلات وبوابات الحدود. ديمقراطية مطعون في حياديتها ونزاهتها وعفتها لأنها مستوردة ممن يبيعوننا القمح المسرطن والأعلاف الفاسدة والأطعمة منتهية الصلاحية، وعرابوها منتفعون أفاقون يقتاتون من هز خصرها في باحات الوطن الماجنة.
ديمقراطيتنا أيها المصري البائس ديمقراطية البذاءة والصفاقة والعنف، أما ديمقراطية ميدان التايمز، فلها أحكام أخر، وعلى المسافرين إلى ديار الديمقراطية المقدسة أن يخلعوا نعال همجيتهم المتوارثة حتى لا يسيئوا إلى الوطن أكثر، فديمقراطيتنا قد أزكمت الأنوف برائحة دمائها وعنفها وقساوة أهلها.
ومعذرة أيتها الراشيل، فثقافتنا لا تحتمل الرايات المعارضة.
عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمارات