زمن التداعي
زمن التداعي
"حين
تتصارع الأفيال، تهلك الحشائش،" هكذا يقول المثل الإنجليزي، بيد أن الواقع
العربي يتجاوز حناجر الإنجليز وحكمتهم البليدة، ففي بلادنا، تتصارع أفيال
العالم القديم والحديث فوق أراض محترقة لا زرع فيها ولا ماء، ولا نبتة أمل
أو غرس حياة.
في بلادنا تتصارع كل إمبراطوريات الشر في عالم ما بعد العدالة لكنها لا تسقط فوق مروج خضراء، بل تسقط فوق عظام صغارنا النخرة.
وعند كل
سقطة ونهوض، تسحق أقدامها الغليظة أحلامنا الصغيرة وتسمل إشراقات الأمل في
عيون صغارنا، لتتركنا في مستنقع آسن من النكسات المتلاحقة.
وبين حانا الشرق ومانا الغرب، ضاعت لحانا التي ظلت على مدى الدهور تقطر
ماءا وطهرا، وتحولنا إلى مسوخ آدمية لا تجيد سوى القنص ولا تعرف من لغات
الكون إلا لغة الرصاص.
وصار كل متحرك في بلادنا هدفا لأصابعنا المتشبثة بأزندتها حتى آخر زخة من بارود.
وهكذا، نجحت الأفيال المتصارعة في تحويل قبلتنا وتغيير هويتنا، لنصبح مسخا
كونيا جديرا بكل براميل البارود التي تتساقط فوق رؤوسنا من كل سماء.
بأيادينا حرقنا آخر نسخ الطهر في نفوسنا ودمرنا محاريب الله في قلوبنا،
وتحولنا من خير أمة أخرجت للناس إلى عصابات هاجناه تخرج الآمنين من ديارهم
وتقتل وتذبح وتمثل باسم الرب. وفوق نصب من الادعاءات الرخيصة بأننا أبناء
الله وأحباؤه، ارتكبنا كل الموبقات كما فعل اليهود ذات ضلال. فكان نصيبنا
من التيه قدرا مقدورا، وكان خروجنا من الأرض المقدسة جزاء وفاقا.
واليوم يعود الإسلام غريبا كما بدأ رحلته الأولى في بلاد العرب، ليعود
العرب إلى جاهليتهم الأولى عن سبق إصرار بعد أن ضاقت أنفسهم المنحرفة
بأوامر الله ونواهيه.
واليوم تبعث حروبنا البسوسية الفاجرة من مراقدها لتعلن تمردها على أخوة لم
يقرها نسب أو رضاع، لتعود الرؤوس الخاوية إلى خوذها الصدأة استعدادا لأي
حرب غبراء قادمة.
اليوم يتنادى الخزرجيون والأوسيون لمعركة الفصل، لكنهم لا يجدون رسولا يكف أياديهم أو يرد ألسنتهم الباغية إلى مرابضها.
واليوم يجتمع الأكلة على قصعة المسلمين الذين ضلوا وتفرقت بهم السبل، وظنوا
أن تلال المال والأساطيل المرابطة فوق مياههم الإقليمية ستعصمهم من أمر
الله. وحول موائدنا العامرة، يتحلق الفاجرون من كل لون ليتلذذوا بلحومنا
الطرية ومشاهدة أفلامنا المرعبة، ليضربوا أفخاذهم بأكفهم وهم لا يصدقون ما
يدور أمام محاجرهم ونحن نتهارج كتهارج الحمر في البرية، يقتل بعضنا بعضا
ويضرب بعضنا رقاب بعض، فيضحكون ويسمرون، ويسخرون من إمبراطورية الرحمة
المتهالكة وأهلها البائسين.
نستحق يا ربنا ما نزل بساحاتنا من عقاب، ونستحق الوهن الذي أصابنا باقتدار.
وجديرون نحن يا ربنا بكل ما لحق بنا من خزي وهوان على الناس. لكننا نسألك
يا ربنا بحق صبية صغار لم تتدنس أياديهم بالتوقيع على معاهدات إثم أو
بروتوكولات فاجرة، ولم تفرق عيونهم الصغيرة بين أبيض وأحمر أو مسجد وحانة
أو يمين وشمال أن ترفع عنا بعضا من العذاب.
نسألك بحق شيوخ أفنوا شبابهم في طاعتك أن ترحم صدورهم العارية وبطونهم الخاوية وعروقهم النافرة من شر لم يعد عن العرب بعيدا.
لم يترك أفيال الشرق والغرب موطئ قدم في بلادنا المحروقة لنبتة وعي تجمع
شتاتنا وتوحد على أي طريق إلا طريق الهزيمة شملنا، وكثر عبثهم بتاريخنا
وجغرفيتنا، وعادوا لتقاسم خرائطنا المتغضنة.
لكننا كنا أدوات القمع وسلطات الهزيمة، وكنا نحن الأعداء. ولولا حروبنا
الصغيرة وأحلامنا التافهة، لما وجدت أساطيلهم موطئ قارب فوق سواحلنا
المهزومة.
كنا أعداء التاريخ وأرضة القرآن، ورغم تهليلنا في كل الساحات وتكبيرنا في كافة ميادين القتل.
كنا أحبارا ضالين ومضلين، لوينا أعناق النصوص لتتوافق مع أحلامنا الساقطة،
واستطعنا بما أوتينا من بيان أن نضل كثيرا من الناس، وأن نجمعهم تحت رايات
كثر تتقاتل جميعها لرفع راية البؤس في بلادنا المسحوقة.
بريئة نصوصك يا رب من كل فتاوانا السياسية الباطلة، وتعالت كلماتك فوق كل
الخطب المنبرية التافهة التي تقسم وتقزم وتسحق الأحلام في بلادنا المحروقة.
وتعاليت يا ربنا عن أحقادنا الصغيرة علوا كبيرا.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
زمن التداعي
زمن التداعي
"حين
تتصارع الأفيال، تهلك الحشائش،" هكذا يقول المثل الإنجليزي، بيد أن الواقع
العربي يتجاوز حناجر الإنجليز وحكمتهم البليدة، ففي بلادنا، تتصارع أفيال
العالم القديم والحديث فوق أراض محترقة لا زرع فيها ولا ماء، ولا نبتة أمل
أو غرس حياة.
في بلادنا تتصارع كل إمبراطوريات الشر في عالم ما بعد العدالة لكنها لا تسقط فوق مروج خضراء، بل تسقط فوق عظام صغارنا النخرة.
وعند كل
سقطة ونهوض، تسحق أقدامها الغليظة أحلامنا الصغيرة وتسمل إشراقات الأمل في
عيون صغارنا، لتتركنا في مستنقع آسن من النكسات المتلاحقة.
وبين حانا الشرق ومانا الغرب، ضاعت لحانا التي ظلت على مدى الدهور تقطر
ماءا وطهرا، وتحولنا إلى مسوخ آدمية لا تجيد سوى القنص ولا تعرف من لغات
الكون إلا لغة الرصاص.
وصار كل متحرك في بلادنا هدفا لأصابعنا المتشبثة بأزندتها حتى آخر زخة من بارود.
وهكذا، نجحت الأفيال المتصارعة في تحويل قبلتنا وتغيير هويتنا، لنصبح مسخا
كونيا جديرا بكل براميل البارود التي تتساقط فوق رؤوسنا من كل سماء.
بأيادينا حرقنا آخر نسخ الطهر في نفوسنا ودمرنا محاريب الله في قلوبنا،
وتحولنا من خير أمة أخرجت للناس إلى عصابات هاجناه تخرج الآمنين من ديارهم
وتقتل وتذبح وتمثل باسم الرب. وفوق نصب من الادعاءات الرخيصة بأننا أبناء
الله وأحباؤه، ارتكبنا كل الموبقات كما فعل اليهود ذات ضلال. فكان نصيبنا
من التيه قدرا مقدورا، وكان خروجنا من الأرض المقدسة جزاء وفاقا.
واليوم يعود الإسلام غريبا كما بدأ رحلته الأولى في بلاد العرب، ليعود
العرب إلى جاهليتهم الأولى عن سبق إصرار بعد أن ضاقت أنفسهم المنحرفة
بأوامر الله ونواهيه.
واليوم تبعث حروبنا البسوسية الفاجرة من مراقدها لتعلن تمردها على أخوة لم
يقرها نسب أو رضاع، لتعود الرؤوس الخاوية إلى خوذها الصدأة استعدادا لأي
حرب غبراء قادمة.
اليوم يتنادى الخزرجيون والأوسيون لمعركة الفصل، لكنهم لا يجدون رسولا يكف أياديهم أو يرد ألسنتهم الباغية إلى مرابضها.
واليوم يجتمع الأكلة على قصعة المسلمين الذين ضلوا وتفرقت بهم السبل، وظنوا
أن تلال المال والأساطيل المرابطة فوق مياههم الإقليمية ستعصمهم من أمر
الله. وحول موائدنا العامرة، يتحلق الفاجرون من كل لون ليتلذذوا بلحومنا
الطرية ومشاهدة أفلامنا المرعبة، ليضربوا أفخاذهم بأكفهم وهم لا يصدقون ما
يدور أمام محاجرهم ونحن نتهارج كتهارج الحمر في البرية، يقتل بعضنا بعضا
ويضرب بعضنا رقاب بعض، فيضحكون ويسمرون، ويسخرون من إمبراطورية الرحمة
المتهالكة وأهلها البائسين.
نستحق يا ربنا ما نزل بساحاتنا من عقاب، ونستحق الوهن الذي أصابنا باقتدار.
وجديرون نحن يا ربنا بكل ما لحق بنا من خزي وهوان على الناس. لكننا نسألك
يا ربنا بحق صبية صغار لم تتدنس أياديهم بالتوقيع على معاهدات إثم أو
بروتوكولات فاجرة، ولم تفرق عيونهم الصغيرة بين أبيض وأحمر أو مسجد وحانة
أو يمين وشمال أن ترفع عنا بعضا من العذاب.
نسألك بحق شيوخ أفنوا شبابهم في طاعتك أن ترحم صدورهم العارية وبطونهم الخاوية وعروقهم النافرة من شر لم يعد عن العرب بعيدا.
لم يترك أفيال الشرق والغرب موطئ قدم في بلادنا المحروقة لنبتة وعي تجمع
شتاتنا وتوحد على أي طريق إلا طريق الهزيمة شملنا، وكثر عبثهم بتاريخنا
وجغرفيتنا، وعادوا لتقاسم خرائطنا المتغضنة.
لكننا كنا أدوات القمع وسلطات الهزيمة، وكنا نحن الأعداء. ولولا حروبنا
الصغيرة وأحلامنا التافهة، لما وجدت أساطيلهم موطئ قارب فوق سواحلنا
المهزومة.
كنا أعداء التاريخ وأرضة القرآن، ورغم تهليلنا في كل الساحات وتكبيرنا في كافة ميادين القتل.
كنا أحبارا ضالين ومضلين، لوينا أعناق النصوص لتتوافق مع أحلامنا الساقطة،
واستطعنا بما أوتينا من بيان أن نضل كثيرا من الناس، وأن نجمعهم تحت رايات
كثر تتقاتل جميعها لرفع راية البؤس في بلادنا المسحوقة.
بريئة نصوصك يا رب من كل فتاوانا السياسية الباطلة، وتعالت كلماتك فوق كل
الخطب المنبرية التافهة التي تقسم وتقزم وتسحق الأحلام في بلادنا المحروقة.
وتعاليت يا ربنا عن أحقادنا الصغيرة علوا كبيرا.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق