الإنشاد الصوفي، حيث ترتقي الأرواح وتُجلى الهموم

رمضان، وما أدراك ما رمضان. الشهر الذي نتذوق فيه الفن بشكلٍ آخر أكثر سامية ورقيًّا عن أي وقت في العام.

حيث تكون الصلة بين العبد والرب في أقصى درجاتها، وتحفّ الأرجاء راحة نفسية تدفعك نحو النظر إلى السماء كل ليلة، متأملًا نجومها البرّاقة، وداعيًا بأن يكون عامك القادم أفضل. وبين هذا وذاك تسمو روحك إلى الأعالي بالأناشيد الإسلامية والجلسات التي يتم فيها ذكر الله على لسان أعذب الأصوات البشرية وأرقّ الآلات الموسيقية. أجل يا سادة، إنه الإنشاد الصوفي الذي يدفعك إلى حافة الانتشاء والطرب اللذين لا يطالانك إلا من خلال بساطة كلماته وتناغم ألحانه.

فاليوم نجمع لكم باقة من أجمل وأطرب المُنشدين الإسلاميين صوفيي النزعة، بجانب فرق صوفية كاملة، وهذا كله في موضوع واحد. حيث تحصلون على تجربة روحية ونفسية فريدة تمامًا بين رحاب الأذكار والدعوات والتضرعات التي لا يوجد أجمل منها في هذا الشهر المبارك.

1) الشيخ أحمد التوني

أحد أعلام الصعيد حصرًا في مجال الإنشاد الصوفي بمصر. فقد استطاع أن ينقل الأناشيد الصوفية من المحلية إلى العالمية، حتى تمت دعوته في العديد من المحافل الموسيقية في أماكن عديدة. يؤمن الشيخ بأن الموسيقى هي التي تجذب الناس وتُرقق أفئدتهم وتُذيب أرواحهم، خصوصًا في جلسات الإنشاد الصوفي، حيث تسودها أجواء مريحة من الصفاء والتحابب.

لُقِّبَ بالعديد من الألقاب مثل (ساقي الأرواح) و(سلطان المنشدين)، حيث يندمج بشدة مع الإنشاد ليبرهن حقًا أنه يوصل رسالة التصوّف الإسلامي إلى العالم أجمع وليس البلدان العربية فقط، وأنها رسالة إنسانية ليست حكرًا على الأمة الإسلامية وحدها. ومن أشهر أنشوداته (قلوب العاشقين) و(كل القلوب إلى الحبيب تميل)، بجانب الكثير والكثير من الأغاني الصوفية العذبة الأخرى.

2) الشيخ زين محمود

من الشيوخ الذين ورثوا فن الإنشاد أبًا عن جد. حيث وُلد في محافظة المنيا بصعيد مصر، وذلك في عام 1986. عام 1992 هو نقطة التحوّل في حياته، حيث تمّ تشجيعه وقتها على الذهاب إلى القاهرة لتعلّم غناء المواويل، مما جعله يُعجب بشدة بالسيرة الهلالية وأتقن إنشاد قصصها ببراعة منقطعة النظير. أصدر أولى أسطواناته الموسيقية في 2008، ثم بعدها انطلق إلى باريس، ومنها إلى سائر الدول الأوروبية ينشر رسالة التصوّف بمزيج من الحب في الرسالة والرصانة في الأداء.

أهم ما يميز أسلوبه هو المزج بين الموسيقى الشرقية والغربية، حيث يُخرج لنا نوعًا مختلفًا وجديدًا من الموسيقى التي تتناسب بشكل مثير للإعجاب مع مستواه الفريد من الأداء وتلاوة القصص والـ”حواديت”. أنشد الكثير والكثير فعلًا، لكن يمكننا القول إن من أبرز أعماله أنشودة (يبكي ويضحك)، والتي أخذها عن قيثارة الغناء العربي، فيروز. وأظهر فيها براعة وقوة وشجناً لا مثيل لهم حقًا.

3) جاهدة وهبة

تُعتبر جاهدة أحد أجمل الأصوات اللبنانية التي أصدرها العالم العربي للعالم أجمع. جاهدة من مواليد عام 1969، حيث وُلِدت في لبنان ووصلت إلى مرحلة متقدمة جدًا من التمكّن من فن الغناء المسرحي. وأظهرت براعة شديدة في الغناء الشرقي، خصوصًا صوفي النزعة منه. بجانب تعلمها العزف على العود، وكتابتها الأشعار المُخصصة للإلقاء المسرحي.

مدحها الكثير من عمالقة الفن العربي، فقد قال في مديحها المغني القدير وديع الصافي (صوتها بإمكانه أن يرفع أيَ نص إلى مقام الشعر)، وأيضًا قال عنها الكاتب الجزائري الرصين واسيني الأعرج (عنيدة هي جاهدة وهبة، لا تبتذل نفسها ولا تبتذل فنّها). من أجمل ما أبدعت في مجال الإنشاد الصوفي أنشودة (إذا هجرت)، كما أنها أصدرت ألبومًا كاملًا في هذا المجال بعنوان (شذرات في الوجود).

4) فرقة ابن عربي الصوفية

تُعتبر هذه الفرقة من أقدم الفرق التي تأسست في المجال، حيث كانت انطلاقتها عام 1988 في مدينة طنجة بالمغرب الشقيق، وحتى وقتنا الحالي. سُميّت الفرقة بهذا الاسم تيمنًا بالشيخ ابن عربي، الذي هو واحد من كبار فلاسفة التصوف في الإسلام.

يتميز أسلوب الفرقة بالدمج بين المقام الصوفي من حيث الكلمات والسطور والأداء، وبين المقام الموسيقي المبني على أسلوب إنشاد الزوايا، خصوصًا الأسلوب الخاص بعماد المغربي. وذلك كله بغرض نقل رسالة التصوّف ذات الطابع الأندلسي إلى العالم أجمع، حيث تُحيي الموسيقى الصوفية الأصيلة التي كانت معروفة هناك.

قامت الفرقة بعمل العديد من الأنشودات الصوفية خلال مسيرتها الفنية، لكن يبقى بعضها في قائمة أفضل أعمال الفرقة. نُرشّح لكم منها (سقيت كأس الهوى)، (نظرت فلم أنظر سواك أحبه)، (قلبي يحدثني)، و(عرفت الهوى).

5) فرقة الحضرة الصوفية

وهي تُعتبر أول فرقة مصرية للإنشاد الصوفي الجماعي، حيث تجمع بين مُنشدين متباينين في الأعمار، وكذلك مختلفين في طرق الإنشاد الصوفية نفسها، مما يجعل هذه الفرقة ذات طابع خاص ومميز إلى أقصى حد.

تتميز الفرقة بوجود مستشار ديني فيها يتمّ عرض جميع القصائد عليه قبل أن يتمّ صقلها في صورة فنية إنشادية رصينة. وعلى الصعيد الفني، فالفرقة تتميز بتقليل عدد الآلات الموسيقية بشدة حتى يتم التركيز على الكلمات والإنشاد ذاته، وليس الألحان. فقد جعلوا آلاتهم مقتصرة على الناي، الدف، والعود.

بالرغم من حداثة الفرقة، إلا أنها أجادت بالعديد من الأنشودات والقصائد الصوفية الجميلة والمُرخية للأعصاب. فمن أفضل أعمالهم نُرشّح لكم (حلفت بسرك الأسمى يمينًا)، (أني جعلتك في الفؤاد محدثي)، و(المسك فاح).

6) فرقة المولوية للإنشاد الصوفي

الفرقة المصرية الوحيدة التي دخلت إلى أعماق التراث حتى الفترة التي كانت تحيا فيها المولوية بمصر بعد الفتح العثماني لها وحتى اندلاع ثورة 1952. تأسست الفرقة على يد مُنشدها، عامر التونى، حيث اتبع الآثار الموسيقية المولوية عبر التاريخ لينتقل من الموشحات، إلى الابتهالات، إلى المديح، ثم إلى سائر الفنون الصوفية المختلفة.

تمتاز الفرقة بالإنشاد المصحوب بالرقص الدراويشي المُميز للمتصوف الأكبر والأشهر، شمس الدين التبريزي. حيث اجتمع الإنشاد مع الرقص ليُبرهن مدى اندماج الفرقة، ومن ثم المستمع، مع الحالة الشعورية السامية التي تهدف إلى الوصول إليها تلك الجلسة الغنائية العذبة. حيث تهدف الفرقة إلى تحويل الإنشاد الصوفي من مجرد فنّ يستمع إليه بعض الأفراد في أماكن محدودة ومُغلقة، إلى فنّ جماهريّ يُمكن للجميع الاستماع إليه بسهولة ويسر.

قامت الفرقة بإنشاد العديد من القصائد، لكن تبقى على رأسها قصيدة (ما طلعت شمس ولا غربت)، (لا ذنب للعشاق)، و(هامت الأرواح).

وفي الختام

الفن حياة بداخل أخرى، فنعيش معه حيَوات لا تنتهي، حتى نجد أنفسنا عِشنا قرونًا خلف قرون ومازلنا صغارًا لم يُكيّل لنا الزمان لكماته بعد. نتمنى لكم لياليَ صوفية رقيقة مع ترشيحات اليوم، وننتظر ترشيحات أخرى منكم في التعليقات عن الإنشاد الصوفي وأفراده وفرقه. دمتم بخير، ونراكم في مقالات كثيرة أخرى تتحدث عن رمضان، وكيف يُمكن للفن أن يمزج بين روحانيات الشهر الكريم، وبين الحالات الشعورية العديدة للفنون المُختلفة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق