مقالة اليوم 25/1/2019 للكاتب /مأمون البسيونى

صعب على النفس والجهد أن أنتظر25يناير من كلّ عام لأنافس ببوست فى تحيّة ثورة يناير. لا يمكن , أن ّيكون هذا هو حالنا الذى انتهينا إليه ,والأمر أفدح , حين التفكير فى 30يونيو , وعلى لسان العسكر والشعب نعلن صباح مساء أننا أفشلنا فى سنة مابناه الإخوان والجماعات التى خرجت من عباءتهم. لايمكن أن نتقبّل تكرار نفس أخطائنا ووسائلنا . نستمرّ فى الاعتماد على المواجهة المسلّحة والقضاء الإستثنائى وحالة الطوارىء وتقييد الحرّيات …وتستمرّ ثقافتنا تدور في أبراج عاجيّة . يناشد رئيس الدولة شيخ الأزهر حول تحسين الخطاب الدينى ,ويستمرّ نشاط الخبراء فى الإخوان وجماعات الإسلام السياسى تتبادل مجموعة من الأساتذة والباحثين تداول الكتابات والقراءات. إن لهذا دوره المحدّد والمحدود, غيرأن الثقافة المصريّة لايمكنها أن تدع الناس أسرى مفاهيم هذه الحتميّة الإسلاميّة التى نزع البعض إلى فرضها بتقديس الأزهر أو بقوّة السلاح.هناك حاجة لأن يتمكّن المجتمع ككلّ من تحديد القيم التى يسعى إليها ومن الصعب على ثقافة البرجات أو الخطاب الدينى لأىّ ملّة أن يدرك أو يستجيب للظروف الجديدة غير العاديّة، والتى تتضمّن فى عصرنا تحوّلات جذرية هيكليّة تصنعها الثورة العلميّة التكنولوجيّة والقائمة أساسا على العمل العقلي.ومن بعض مردوداتها،مايغير فى أدمغتنا ذاتها. نتيجة استكشاف الكون والسير فى الفضاء والفيزياء الحديثة..لايمكن أن نمر مر الكرام على التجارب الطبيّة لإطالة عمرالإنسان والحصول على مولود نحدّد سلفا جنسه وٍ لون بشرته وعينيه وشعره،على الاستنساخ وتخليق الأعضاء من الخلايا الجزعيّة، على تعقّد النظام الاقتصادى والسياسى ومايفرزه كلّ ذلك من قيم يواجهها الإنسان لأوّل مرّة.. سنفقد خصوبتنا ودورنا إذا مضينا فى هذه الدنيا,ونحن نتصور الثقافة نأيا عن السياسة , بينما نلوى عنقها كلّ لحظة لنربطها بالدين والتديّن . لا تحمل الثقافة على كاهلها مهمّة تدبير العوام ” الأمى الحقيقى الذى يعيش دون قراءة وكتابة والأمّى الثانوى ومنهم من تخرّج من الجامعات وحصل على الماجستير والدكتوراه. أواصل إعادة عرض الكتاب الثالث 
-111- الجينوم البشرى “القضايا العلمية والإجتماعية”
قام بتحريره : دانييل كيفلس و ليروى هود
قام بالترجمة : د. أحمد مستجير
الناشر : مهرجان القراءة للجميع
*********
الكتاب هو قصّة البحث فى الطاقم الوراثى البشرى ، فى مجموعة كل “الجينات” الموجودة فى خلايا البشر . ليس هذا هو الاكتشاف ..إنما ماسيترتب عليه ،فلم تكن البشرية ” ومن بينها الشعب المصرى” لتستمر فى تطورها بالاعتماد على الإنتخاب الطبيعى وحده .تلك كانت مسيرة عشوائية فى فضاء كل الممكنات الوراثية..لقد مضت ببطئ شديد كما كان صانع الساعات أعمى . وقد يحدث فيما يلى من مئات معدودة من السنين أن تحلّ الهندسة الوراثية مكان التطور البيولوجى ،وتعيد تصميم الجنس البشرى بمايطرحه ذلك من قضايا ثقافية وأخلاقية لعصر جديد مختلف..أصبحنا على مشارفه .وبالتأكيد فإنه لن يظلّ مايميزنا عن الشمبانزى هوواحد بالمائة فقط من طاقمنا الوراثى .على ان هذا الفارق ليس بأكثر من تقدير عامّ عريض ويكمن الفارق فى التفصيلات..فى المعلومات المحدّدة عن كلّ الجينات ومعرفة كيف تسهم فى خصائصنا البشرية،والدور الذى تلعبه أو لاتلعبه فى الأمراض والتنامى والسلوك..الآن وغدا . إن إنسانا يفكر فى السفر فى الفضاء لما وراء منظومتنا الشمسية لا بدّ أن يفكّر فى منظومته البيولوجية . وفى ثمانينات القرن العشرين أصبحت الجينات مهنة ، واحتشدت الأخبار بجينات النبات والفاروالبكتيريا والإنسان. وقيل أن هذه الجينات هى التى تحدّد من نكون. هى التى تنتقى من بيننا العباقرة والأبطال والعلماء ،هى التى تجعل بيننا الأخيار والأشرار، تسببّ فى إصابة بعضنا بالهوس الإكتئابى والشيزوفرينيا… وكان من المحتّم أن تمتد بسرعة آمال التحكّم إلى مجال الطبيعة البشريّة. وبدأت البحوث ،ومن تحت معطف البيولوجيا الجزيئية بزغت خبرة تكنولوجية حوّرت على نحو حاسم قدرة الإنسان على أن يوجّه تطوّره بنفسه. وكأن الطبيعة قد بلغت فيه ما هو أبعد من الصدفة والعشوائية ،أو الإنتظام الجامد للقوانين .إنه يتجاوز كل ذلك ويفترض أن يربِّى للشعور والمعرفة والإخلاص والصدق،كما يربِّى للنحافة والسمنة والشعرا لناعم والأجعد والعيون السوداء والزرقاء . ولا ريب أن مايرتبط بهذه التضمينات من القدرة يصحبه الخوف أيضا من الأهداف المخبوءة . لم تبعد عنّا بعد تجربة النازية وماسيخلقه انتاج بشر محسّنين من مشاكل إقتصادية وسياسية كبيرة فى مواجهة الذين لايملكون أن تطالهم وسائل التحسين .وبصرف النظر عماّ إذا كانت الهندسة الوراثية تطويرا مرغوبا فيه أو غير مرغوب،فمن المرجّح أنه سيحدث سواء أردنا أو لم نرد. والبحث فى الطاقم الوراثى البشرى يدخل الآن مرحلة الذروة مع ابتداع مشروع الجينوم البشرى. وسوف يؤجج ثورته فى فهمنا لتنامى الإنسان بما فى ذلك التحكّم فيما يجب أن يكون عليه. سيحاول أن يتجنب أو يعزّز قدره الوراثى .. لقد مدّ شفتيه ليرشف من الكأس المقدسّة ،وهو الإسم الذى أطلقه والتر جيلبرت حامل جائزة نوبل على الجينوم البشرى. وليس من الضرورى كما يقول محرِّرا الكتاب أن تتفق آراء كلّ منا مع ما جاء به . لكنّنا بإزاء بحوث جرت فى المعامل بخصوص الأمراض الوراثية وضعت تساؤلا مهما امام البيولوجيين عما إذا كانت هناك جذوربيولوجية وراء التدهور الإجتماعى ..إذا كان لنا أن نستأصله؟
وسريعا ما ضمّ برنامج الوراثة البشرية للعلل – من مثل مرض السكر والصرع والسرطان وغيرها من الأمراض التى توجد الوراثة ضمن أسباب انتقالها –ليس فقط معاناة المرضى إنما كل مايسهم فى زيادة العبىء الإجتماعى .وامتد حقل المعرفة إلى الصفات التى تتضمّن الطبيعة المزاجية والسلوك ، والتى قد تكون السبب فى إدمان الكحوليات والبغاء والإجرام والفقر . ومن الطبيعى ان يكون القصور الذهنى موضوعا رئيسيا للتفحص ، وكان المصطلح الشائع له هو[ ضعف العقل] . وكثيرا ما كان يحدد باختبارات الذكاء ويعزى إليه ضروب كثيرة من السلوك الإجتماعى المتدهور والمنحطّ.
وفى استطراد شيّق ياخذك المؤلِّف إلى المعامل التى أخذت على عاتقها تطوير المعارف المفيدة فى هذا المجال،ومن أشهرها معهد جالتون فى لندن ومعهد كارنيجى فى واشنطن.وفى المانيا بدأ العلم البيوجينى اعتبارا من عام 1918فى معهد القيصر فلهلم لبحوث الطبّ العقلى . ومماهو جدير بالذكر أن البحث فى ألمانيا ظلّ مشابها لما يجرى فى أمريكا وبريطانيا حتى بعد وصول النازية إلى الحكم،استمرّ يهتم ببحوث من مثل مواضيع وراثة مرض السكّرومرض المخّ والإجرام واثر التهجين بين السلالات البشرية “دون تأكيد خاص على اليهود أو الآريين”.وفى عهد هتلر استغلّ البيروقراطيون النازيون البحوث ووضعوها فى خدمة الرايخ الثالث. وعموما عمّ التحامل الطبقى والعرقى العلم البيوجينى ، وقدّمت فى أوروبا وأمريكا معايير للقيمة والملاءمة يغلب عليها التحيز. رأوا أن فقر الجماعات ذات الدخل المنخفض لايرجع إلى افتقاد الفرص الإقتصادية والتعليمية فقط , وإنّما إلى قصور فى قدراتهم الأخلاقية والعقلية يتجذّرفى مورّثاتهم. عموما من الناحية العلمية فقد غلبت النواحى الإيجابية والتى تعنى بتحسين السلالة البشرية/أو التربية لتوليد أناس أفضل.
واستمرّ الحلم الجميل الطيّب يراود العلماء لرفع تكرارات الجينات الطيبة اجتماعيا وخفض تكرار الجينات الرديئة .وانجذب إلى المجال كوادر موهوبة ، من بينهم العالم البريطانى رونالد.أ .فيشر، ج.ب.س.هالدين، لانسيلوت هاجبين،جوليان هكسلى والأمريكى هيرمان..آمنوا بضرورة تحرير اليوجينيامن أىّ تحيّز عرقى أو طبقى. واستعادت كلمة اليوجينيا سمعتها الطيبة وتخلّصت مما لحقها نتيجة انكشا ف فظائع الهولوكست :الإبادة الجماعية”. ونشأ مشروع الطاقم الوراثى الإنسانى أساسا عن مبادرات قام بها فى أواسط الثمانينات من القرن العشرين كل من روبرت سينسهايمر وتشارلس ده ليزى.أعلن الأوّل أن البيولوجيا الجزيئية قد فتحت أمام البشر آمالا جديدة لاتحدّ،إذ هى تمكّن العلماء من تخليق جينات جديدة وصفات جديدة {ولأوّل مرّة فى التاريخ يفهم كائن حىّ أصله ويستطيع أن يتولّى تخطيط مستقبله..}. اماّ الثانى ، فكان مديرا لمكتب الصحّة والبيئة بوزارة الطاقة بواشنطن والتى تمتد جذورهاإلى مشروع مانهاتن وابتكار القنبلة الذرّية، وقد رعت طويلا البحث فى الآثار البيولوجية للإشعاع لاسيما الطفرات الوراثية. وفى مايو 1985 دعا سينسهايمر دستة من قادة البيولوجيا الجزيئية فى أمريكا وأوروبا لحضور ورشة عمل عن التوقّعات التقنية لمشروع الطاقم الوراثى البشرى.وفى مارس 1986 دعا ده ليزى سينسهايمر وآخرين إلى ورشة عمل مشابهة ،وفى الإجتماع الأخير أعلن جيلبرت أن الجينوم البشرى هو الكأس المقدّسة وأضاف أنه الجواب الأخير على الوصية القائلة” اعرف نفسك” ومثل جيلبرت ظهرت رؤية جماعية بأن تنويعة من الابتكارات منذ أواخر الستينات تجعل التوقّعات ممتازة لبلوغ الهدف 
كانت الولايت المتحدة من غير شكّ تسبق اوروبا واليابان فى مجال البيولوجيا الجزيئية والبيو تكنولوجيا بوجه عام وبحوث الجينوم البشرى على وجه الخصوص. ثمّة مايقرب من نصف البحوث جرى فى الولايت المتحدة،وصدر منها حوالى42% من العشرة آلاف مقالة عن الموضوع. وفى الفترة 87- 1988 احتشدت بحوث الجينوم فى بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والإتحاد السوفييتى السابق، وقد حرّكتهم جميعا المبادرة الأمريكية. آه لو أدركت هذه الدولة بإمكانياتها غيرالمحدودة مسؤلياتها الحقيقية تجاه العالم فى سعيها لإقامة نظام عالمى جديد! لاسيما مايمكن أن نتوقّعه من مجتمعها العلمى. إنه لأفق جديد فى تاريخ الإنسان أن تتوحد الجهود ،قد يبتسم البعض ممن لايقدرون على التفاؤل –ولايعتبرون الأمر اكثر من الحلم القديم-كمال الإنسان-وقد عاد فى صيغة جديدة. الأحلام القديمة عن الكمال الخلقى والثقافى نجدها الآن محدّدة بعيوب الإنسان الوراثية المتأصلة،وتؤكد مسيرة البشر أنهم حاولوا كثيرا تشجيع أفضل صفاتهم وكبح مثالبهم وشرورهم،لجأوا إلى رحاب الدين واعتمدوا على الثقافة وجرّبوا نظما سياسية مختلفة لتواجههم غالبا نفس الصعوبات.. لم يكن مستحيلا أن يستنبطوا العبر..لكننا نلمح الآن طريقا آخر-الفرصة كى نخفّف التوتّر الداخلى وكى نرأب الصدوع الداخلية مباشرة ..نكمل نتاج المليونى سنة من سنين التطور ، نتقن صنعه وقدأصبح صانع الساعات[الإنتخاب الإصطناعى] مبصرا مدركا ليصل بالإنسان إلى ماهو أبعد كثيرا من رؤيتنا الحالية…

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق