صفقاتنا المشبوهة - منتديات غزل وحنين
صفقاتنا المشبوهة
السياسة لعبة قذرة، والجالسون فوق مقاعدها يقلبون وجوههم في السماء حيثما يممت المصالح، ويغيرون بصمات أصابعهم وألوان جلودهم وانتماءاتهم الفكرية آناء الليل وأطراف النهار. والضرورات في عالمهم تجب دوما المحظورات - إن كان لديهم في عالم السياسة ثمة محظور. والمحنكون منهم قادرون على العبث بالمنطق والتلاعب بالمفردات واللهو بالجماجم الموزعة على خرائب الوطن.
والسياسي الفذ يمتلك تفاصيل وجهه فلا تنقبض عضلة ولا تنبسط إلا بإذنه، ولا تهتز أحبال حلقه إلا لحاجة ولا تسكن إلا لغاية. والتناقض في أقوال المشاهير من رجال السياسة مزية لا يدركها إلا المتابع لشئون الأكاذيب في أحاديث الساسة.
وجون كيري أحد أبرز الوجوه السياسية الجامدة .. فملامحه لا تدل على مشاعر، ونبراته الرتيبة لا تتلون بتفاصيل المنصات، وهدوؤه يسبق كل العواصف ويتبعها لكنه لا يرعد أبدا ولا يهدر. وقدرة الرجل على العبث برؤوس من يثق بحروفه لا تضاهى. فهو قادر على تغيير قبلة جلسائه في الجلسة الواحدة بضع مرات، وقادر على إقناعهم بالشيء وضده والتنقل بين أبيض المنطق وأسوده دون أن يفطن إلى تعرجاته الفكرية مراقب.
لكن ثقة كيري بحروفه أوقعته مؤخرا في حرج سياسي بالغ، واضطرته إلى اختلاق تبرير طفولي ساذج للتغطية على موقف سياسي مفضوح.
عام 1999، حاول الرئيس الأمريكي بيل كلينتون التصديق على قرار بالعفو عن جوناثان بولارد أشهر جاسوس في التاريخ الأمريكي المعاصر. وكان بولارد قد أدين بتهمة تسريب معلومات غاية في الخطورة والسرية إلى إسرائيل، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة
لكن توقف مسار المفاوضات فوق قضبان الشرق الأوسط دفع كلينتون إلى التفكير بالإفراج عن بولارد الذي أمضى اثنتي عشرة عاما وراء القضبان مقابل دفع إسرائيل إلى التنازل عن أشبار من مواقفها المتعنتة فوق خريطة التفاوض. يومها، تقدم جون كيري تسعة وخمسين من أبرز رجالات مجلس الشيوخ من الحزبين ليوقع على وثيقة تطالب الرئيس الأمريكي بالامتناع عن إصدار العفو عن الجاسوس الأمريكي المدان. ويومها اضطر كلينتون تحت ضغط سياسي وشعبي هائل إلى التخاذل عن تحرير جوناثان.
صحيح أن علاقات أمريكا بإسرائيل كانت تقتضي الكثير من التنازلات، لكن حجم التسريبات التي اعترف بها بولارد كانت أكبر من قدرة أي رئيس أمريكي على غض الطرف.
لكن المتحدث باسم الصالح الأمريكي العام قد اضطر بعد تغيير مقعده السياسي القديم إلى تغيير معتقداته السياسية.
فبعد خمسة عشر عاما من الثبات على المبدأ، لم يجد كيري حرجا في إطلاق سراح محلل الاستخبارات الأسبق بولارد إذ "دفع الرجل ثمن خيانته، وحالته الصحية تستحق المراجعة." هكذا فجأة، عرفت الشفقة طريقها إلى صاحب الوجه اليابس، وذهب هو ورفاق الأمس هيجل وديان فينشتين يبررون صفقة الإفراج عن الرجل الذي تفوق على كل مسربي الوثائق الأمريكية الهامة إلا سنودن. حرية بطل إسرائيل القومي أصبحت الآن على المحك، والواقفون على ثغور الخارجية والدفاع والمخابرات في أمريكا يديرون اليوم ظهورهم لتحالفهم الستيني القديم، ويؤكدون أن إطلاق سراح بولارد يصب في نهر المصالح الأمريكية الدفاق.
لكنهم لا يجرؤون على الاعتراف بأن تعثر المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية هو الذي يدفع حزب الأغلبية اليوم إلى اتخاذ نفس التدابير التي حاول كلينتون أن يمررها ذات يوم، وأن صفقة إطلاق سراح بولارد مجرد زيت على قضبان المفاوضات التي توقفت تماما في شرقنا الأوسطي المباح.
مقابل بولارد، ستنطلق الزغاريد في بيوت أربعة عشر أسيرا فلسطينيا في سجون الاحتلال، لكنهم قد لا يكتب لهم أن يتفيؤوا ظلال بيوتهم بعد أن أعلنت قوى الاحتلال الإسرائيلي عن نيتها في نزع الجنسية الإسرائيلية عنهم وإبعادهم إلى غزة.
وحين يخرج جوناثان من محبسه، سيستقبله المستوطنون رافعين رايات النصر ليجد لما تبقى لعظامه النخرة موطنا في إسرائيل التي منحته الجنسية الفخرية نظير ما قدم لها من تسريبات.
أما الفلسطينيون المحررون، فلن يضعوا رؤوسهم المتعبة فوق وساداتهم الأسرية القديمة، وسيجبرون على شتات آخر داخل الوطن المحتل. مقايضة قد تبدو غير عادلة أمام أطفال ذاقوا وبال فقدهم لآبائهم وعائليهم، لكنه قد يبرر استمرار محمود عباس في مفاوضات الأرض مقابل الطرد والأسرى مقابل الجواسيس، ويبرر بقاء كيري وفريقه من العجائز على صدر بلاد تفقد من رصيدها كل يوم في منطقتنا الآيلة للفوضى.
عبد الرازق أحمد الشاعر
السياسة لعبة قذرة، والجالسون فوق مقاعدها يقلبون وجوههم في السماء حيثما يممت المصالح، ويغيرون بصمات أصابعهم وألوان جلودهم وانتماءاتهم الفكرية آناء الليل وأطراف النهار. والضرورات في عالمهم تجب دوما المحظورات - إن كان لديهم في عالم السياسة ثمة محظور. والمحنكون منهم قادرون على العبث بالمنطق والتلاعب بالمفردات واللهو بالجماجم الموزعة على خرائب الوطن.
والسياسي الفذ يمتلك تفاصيل وجهه فلا تنقبض عضلة ولا تنبسط إلا بإذنه، ولا تهتز أحبال حلقه إلا لحاجة ولا تسكن إلا لغاية. والتناقض في أقوال المشاهير من رجال السياسة مزية لا يدركها إلا المتابع لشئون الأكاذيب في أحاديث الساسة.
وجون كيري أحد أبرز الوجوه السياسية الجامدة .. فملامحه لا تدل على مشاعر، ونبراته الرتيبة لا تتلون بتفاصيل المنصات، وهدوؤه يسبق كل العواصف ويتبعها لكنه لا يرعد أبدا ولا يهدر. وقدرة الرجل على العبث برؤوس من يثق بحروفه لا تضاهى. فهو قادر على تغيير قبلة جلسائه في الجلسة الواحدة بضع مرات، وقادر على إقناعهم بالشيء وضده والتنقل بين أبيض المنطق وأسوده دون أن يفطن إلى تعرجاته الفكرية مراقب.
لكن ثقة كيري بحروفه أوقعته مؤخرا في حرج سياسي بالغ، واضطرته إلى اختلاق تبرير طفولي ساذج للتغطية على موقف سياسي مفضوح.
عام 1999، حاول الرئيس الأمريكي بيل كلينتون التصديق على قرار بالعفو عن جوناثان بولارد أشهر جاسوس في التاريخ الأمريكي المعاصر. وكان بولارد قد أدين بتهمة تسريب معلومات غاية في الخطورة والسرية إلى إسرائيل، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة
لكن توقف مسار المفاوضات فوق قضبان الشرق الأوسط دفع كلينتون إلى التفكير بالإفراج عن بولارد الذي أمضى اثنتي عشرة عاما وراء القضبان مقابل دفع إسرائيل إلى التنازل عن أشبار من مواقفها المتعنتة فوق خريطة التفاوض. يومها، تقدم جون كيري تسعة وخمسين من أبرز رجالات مجلس الشيوخ من الحزبين ليوقع على وثيقة تطالب الرئيس الأمريكي بالامتناع عن إصدار العفو عن الجاسوس الأمريكي المدان. ويومها اضطر كلينتون تحت ضغط سياسي وشعبي هائل إلى التخاذل عن تحرير جوناثان.
صحيح أن علاقات أمريكا بإسرائيل كانت تقتضي الكثير من التنازلات، لكن حجم التسريبات التي اعترف بها بولارد كانت أكبر من قدرة أي رئيس أمريكي على غض الطرف.
لكن المتحدث باسم الصالح الأمريكي العام قد اضطر بعد تغيير مقعده السياسي القديم إلى تغيير معتقداته السياسية.
فبعد خمسة عشر عاما من الثبات على المبدأ، لم يجد كيري حرجا في إطلاق سراح محلل الاستخبارات الأسبق بولارد إذ "دفع الرجل ثمن خيانته، وحالته الصحية تستحق المراجعة." هكذا فجأة، عرفت الشفقة طريقها إلى صاحب الوجه اليابس، وذهب هو ورفاق الأمس هيجل وديان فينشتين يبررون صفقة الإفراج عن الرجل الذي تفوق على كل مسربي الوثائق الأمريكية الهامة إلا سنودن. حرية بطل إسرائيل القومي أصبحت الآن على المحك، والواقفون على ثغور الخارجية والدفاع والمخابرات في أمريكا يديرون اليوم ظهورهم لتحالفهم الستيني القديم، ويؤكدون أن إطلاق سراح بولارد يصب في نهر المصالح الأمريكية الدفاق.
لكنهم لا يجرؤون على الاعتراف بأن تعثر المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية هو الذي يدفع حزب الأغلبية اليوم إلى اتخاذ نفس التدابير التي حاول كلينتون أن يمررها ذات يوم، وأن صفقة إطلاق سراح بولارد مجرد زيت على قضبان المفاوضات التي توقفت تماما في شرقنا الأوسطي المباح.
مقابل بولارد، ستنطلق الزغاريد في بيوت أربعة عشر أسيرا فلسطينيا في سجون الاحتلال، لكنهم قد لا يكتب لهم أن يتفيؤوا ظلال بيوتهم بعد أن أعلنت قوى الاحتلال الإسرائيلي عن نيتها في نزع الجنسية الإسرائيلية عنهم وإبعادهم إلى غزة.
وحين يخرج جوناثان من محبسه، سيستقبله المستوطنون رافعين رايات النصر ليجد لما تبقى لعظامه النخرة موطنا في إسرائيل التي منحته الجنسية الفخرية نظير ما قدم لها من تسريبات.
أما الفلسطينيون المحررون، فلن يضعوا رؤوسهم المتعبة فوق وساداتهم الأسرية القديمة، وسيجبرون على شتات آخر داخل الوطن المحتل. مقايضة قد تبدو غير عادلة أمام أطفال ذاقوا وبال فقدهم لآبائهم وعائليهم، لكنه قد يبرر استمرار محمود عباس في مفاوضات الأرض مقابل الطرد والأسرى مقابل الجواسيس، ويبرر بقاء كيري وفريقه من العجائز على صدر بلاد تفقد من رصيدها كل يوم في منطقتنا الآيلة للفوضى.
عبد الرازق أحمد الشاعر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق