الأخلاق ومكانتها فى ديننا الحنيف
الأخلاق ومكانتها فى ديننا الحنيف
مكانة الأخلاق في الدين:
أيها الإخوة الكرام، المنطلق الذي انطلقت منه في موضوع الخطبة، أن أحد الإخوة الكرام، في لقاء قبل يومين، تعجَّب أشدَّ العجب، من إنسان إن تكلم في أمور الدين أخذ بالألباب، أما إذا حاككته، وعاملته، وعاشرته، وجاورته، وجدتَ منه العجب العُجاب، قال لي: ما هذه المفارقة الحادة ؟ وما هذا التناقض المريع بين منطوق هذا الإنسان وسلوكه ؟
هذا السؤال استـفزَّني إلى أن أجعل موضوع هذه الخطبة: ( مكانة الأخلاق في الدين ).
الإيمان هو الخلق الحسن:
أول شيء أبدأ به، كلمة جامعة مانعة، لِعَلَمٍ من كبار أعلام العلماء، هو الإمام ابن القيم رحمه الله، والذي يعدُّ العلماء المعاصرون معظمهم عالةً عليه، قال هذا العالم الجليل: " الإيمان هو الخُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الإيمان ".
يؤكد هذا القول، جوابُ الصحابي الجليل، جعفر بن أبي طالب يوم كان في الحبشة، والنجاشي يسأله عن حقيقة هذا الدين، فالآن نستمع إلى علَمٍ من أعلام الصحابة يعرِّف الدين فيقول:
(( أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف ))
من حديث موقوف أخرجه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير واحد وقد صرح بالسماع
هذه هي الجاهلية الجهلاء، وحينما قال الله عز وجل:
﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾
( سورة الأحزاب: الآية 33 )
فكأن منطوق هذه الآية، يشير إلى أن هناك جاهلية ثانية، أمرّ وأدهى، وهي التي نعيشها اليوم، قال:
(( أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقة وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء.. ))
من حديث موقوف أخرجه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير واحد وقد صرح بالسماع
ماذا تظنون ؟ وماذا تجدون في مضمون هذه الإجابة ؟
أليس كل هذا الذي قاله سيدنا جعفر من مكارم الأخلاق ؟
هذا هو الدين: " الإيمان هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان "، لكن من البديهي أن يقصد الإمامُ ابنُ القيم المسلمَ الذي صحت عقيدته، وأدى عباداته على تمامها، ثم بعد ذلك، الشيء الذي يميزه، ويكون صارخاً، ويبعث الناس إلى الدخول في دين الله أفواجاً، هو أخلاقه.
لو أردنا أن نأخذ دليلاً واضحاً قطعياً من السنة.. يقول عليه الصلاة والسلام:
(( إِن الله لم يبعثني مُعنِّتاً ولا مُتَعَنِّتاً، ولكن بعثني مُعَلِّما مُيَسِّراً ))
من حديث صحيح، أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ))
حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ورجاله رجال الصحيح
ولا يخفى عليكم أن ( إنما ) تفيد القصر والحصر.
أي أن النبي عليه الصلاة والسلام حصر مفهوم ومضامين بعثته بالقيم الأخلاقية.
الخلق الحسن الميزة العظمى للحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم:
الله سبحانه وتعالى أعطى هذا النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، صفاتٍ لا تعد ولا تحصى من الكمالات: أعطاه وحياً، أعطاه معجزةً، نفى عنه النسيان:
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾
( سورة الأعلى: الآية 6 )
أعطاه ما أعطاه، أما حينما أثنى عليه، فبماذا أثنى عليه ؟ قال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
( سورة القلم: الآية 4 )
الدين عبادة للخالق ومعاملة حسنة للخلق:
أيها الإخوة الكرام، السيد المسيح في القرآن الكريم قال:
﴿ وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً ﴾
( سورة مريم: الآية 31 )
وكأن هذه الآية تضغط الإسلام في حركتين: حركة نحو الخالق، وحركة نحو المخلوق:
ـ الاتجاه إلى الخالق اتجاه العبادة والتوكل والمحبة والثقة بالله والاعتماد عليه، والالتجاء إليه..
ـ والحركة نحو المخلوق هي الإحسان، أي الانضباط معه، والإحسان إليه.
أيها الإخوة الكرام، إذاً، يكاد يكون الموقع الأول في الدين هو الخلق، بعد صحة العقيدة، وأداء العبادات، ولا يخفى عليكم أن من تعريفات الدين، أنه: ( عقائد وعبادات وأخلاق )، فالأخلاق تأتي بعد العقائد والعبادات.
الأخلاق التي نجبر عليها ليست من الخلق الحسن:
لكن أيها الإخوة الكرام، لكيلا تتداخل العادات والتقاليد مع الأخلاق، لكيلا تتداخل الأنظمة الأرضية مع الأخلاق، يجب أن ننحّيَ جانباً ـ من موضوع الأخلاق ـ كل سلوك نُلزم به مجبرين عليه، أعجبنا أو لم يعجبنا.
كل إنسان يعيش في بلد فيه قوانين، ويوجد أنظمة، فهو ملزم أن يطبق هذه القوانين، موضوعنا لا يتعلق بهذا، الإنسان يطبق خوفاً أو طمعاً، الخلق الحسن ما كان من ذات الإنسان ابتداءً، ما كان مبادرةً منه شخصياً، ما كان سلوكاً لا يرجو منه ثواباً، ولا يخشى منه عقاباً، أعني من البشر، هذه القيم الأخلاقية الرفيعة التي هي نموذج من العلاقات، فيها رقيّ كبير.
أيها الإخوة الكرام، أيضاً، إذا كان هناك روادع أرضية كبيرة جداً، والإنسان يلتزم الروادع، فهذا خارج عن الموضوع.
مثلاً، الإنسان قد لا يسرق، لماذا لا يسرق ؟ لأنه يعيش في مكان، لو أن يده امتدت إلى مال ليس له، عوقب أشد العقاب، فهو يخاف، فلا يسرق، وأحياناً يكون في أوامر الدين أمر، لو أنك عصيته لا أحد على وجه الأرض يسائلك، كغض البصر، لو أنك أطلقت البصر، ليس على الأرض كلها قانون أو نظام يمنعك من إطلاق البصر..
فلذلك حينما ينفرد الدين ببعض الأوامر، فهذا يؤكد الإخلاص في الإنسان.
****
أ- د / محمد راتب النابلسى
الأخلاق ومكانتها فى ديننا الحنيف
مكانة الأخلاق في الدين:
أيها الإخوة الكرام، المنطلق الذي انطلقت منه في موضوع الخطبة، أن أحد الإخوة الكرام، في لقاء قبل يومين، تعجَّب أشدَّ العجب، من إنسان إن تكلم في أمور الدين أخذ بالألباب، أما إذا حاككته، وعاملته، وعاشرته، وجاورته، وجدتَ منه العجب العُجاب، قال لي: ما هذه المفارقة الحادة ؟ وما هذا التناقض المريع بين منطوق هذا الإنسان وسلوكه ؟
هذا السؤال استـفزَّني إلى أن أجعل موضوع هذه الخطبة: ( مكانة الأخلاق في الدين ).
الإيمان هو الخلق الحسن:
أول شيء أبدأ به، كلمة جامعة مانعة، لِعَلَمٍ من كبار أعلام العلماء، هو الإمام ابن القيم رحمه الله، والذي يعدُّ العلماء المعاصرون معظمهم عالةً عليه، قال هذا العالم الجليل: " الإيمان هو الخُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الإيمان ".
يؤكد هذا القول، جوابُ الصحابي الجليل، جعفر بن أبي طالب يوم كان في الحبشة، والنجاشي يسأله عن حقيقة هذا الدين، فالآن نستمع إلى علَمٍ من أعلام الصحابة يعرِّف الدين فيقول:
(( أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف ))
من حديث موقوف أخرجه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير واحد وقد صرح بالسماع
هذه هي الجاهلية الجهلاء، وحينما قال الله عز وجل:
﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾
( سورة الأحزاب: الآية 33 )
فكأن منطوق هذه الآية، يشير إلى أن هناك جاهلية ثانية، أمرّ وأدهى، وهي التي نعيشها اليوم، قال:
(( أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقة وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء.. ))
من حديث موقوف أخرجه الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير واحد وقد صرح بالسماع
ماذا تظنون ؟ وماذا تجدون في مضمون هذه الإجابة ؟
أليس كل هذا الذي قاله سيدنا جعفر من مكارم الأخلاق ؟
هذا هو الدين: " الإيمان هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان "، لكن من البديهي أن يقصد الإمامُ ابنُ القيم المسلمَ الذي صحت عقيدته، وأدى عباداته على تمامها، ثم بعد ذلك، الشيء الذي يميزه، ويكون صارخاً، ويبعث الناس إلى الدخول في دين الله أفواجاً، هو أخلاقه.
لو أردنا أن نأخذ دليلاً واضحاً قطعياً من السنة.. يقول عليه الصلاة والسلام:
(( إِن الله لم يبعثني مُعنِّتاً ولا مُتَعَنِّتاً، ولكن بعثني مُعَلِّما مُيَسِّراً ))
من حديث صحيح، أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ))
حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ورجاله رجال الصحيح
ولا يخفى عليكم أن ( إنما ) تفيد القصر والحصر.
أي أن النبي عليه الصلاة والسلام حصر مفهوم ومضامين بعثته بالقيم الأخلاقية.
الخلق الحسن الميزة العظمى للحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم:
الله سبحانه وتعالى أعطى هذا النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، صفاتٍ لا تعد ولا تحصى من الكمالات: أعطاه وحياً، أعطاه معجزةً، نفى عنه النسيان:
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾
( سورة الأعلى: الآية 6 )
أعطاه ما أعطاه، أما حينما أثنى عليه، فبماذا أثنى عليه ؟ قال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
( سورة القلم: الآية 4 )
الدين عبادة للخالق ومعاملة حسنة للخلق:
أيها الإخوة الكرام، السيد المسيح في القرآن الكريم قال:
﴿ وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً ﴾
( سورة مريم: الآية 31 )
وكأن هذه الآية تضغط الإسلام في حركتين: حركة نحو الخالق، وحركة نحو المخلوق:
ـ الاتجاه إلى الخالق اتجاه العبادة والتوكل والمحبة والثقة بالله والاعتماد عليه، والالتجاء إليه..
ـ والحركة نحو المخلوق هي الإحسان، أي الانضباط معه، والإحسان إليه.
أيها الإخوة الكرام، إذاً، يكاد يكون الموقع الأول في الدين هو الخلق، بعد صحة العقيدة، وأداء العبادات، ولا يخفى عليكم أن من تعريفات الدين، أنه: ( عقائد وعبادات وأخلاق )، فالأخلاق تأتي بعد العقائد والعبادات.
الأخلاق التي نجبر عليها ليست من الخلق الحسن:
لكن أيها الإخوة الكرام، لكيلا تتداخل العادات والتقاليد مع الأخلاق، لكيلا تتداخل الأنظمة الأرضية مع الأخلاق، يجب أن ننحّيَ جانباً ـ من موضوع الأخلاق ـ كل سلوك نُلزم به مجبرين عليه، أعجبنا أو لم يعجبنا.
كل إنسان يعيش في بلد فيه قوانين، ويوجد أنظمة، فهو ملزم أن يطبق هذه القوانين، موضوعنا لا يتعلق بهذا، الإنسان يطبق خوفاً أو طمعاً، الخلق الحسن ما كان من ذات الإنسان ابتداءً، ما كان مبادرةً منه شخصياً، ما كان سلوكاً لا يرجو منه ثواباً، ولا يخشى منه عقاباً، أعني من البشر، هذه القيم الأخلاقية الرفيعة التي هي نموذج من العلاقات، فيها رقيّ كبير.
أيها الإخوة الكرام، أيضاً، إذا كان هناك روادع أرضية كبيرة جداً، والإنسان يلتزم الروادع، فهذا خارج عن الموضوع.
مثلاً، الإنسان قد لا يسرق، لماذا لا يسرق ؟ لأنه يعيش في مكان، لو أن يده امتدت إلى مال ليس له، عوقب أشد العقاب، فهو يخاف، فلا يسرق، وأحياناً يكون في أوامر الدين أمر، لو أنك عصيته لا أحد على وجه الأرض يسائلك، كغض البصر، لو أنك أطلقت البصر، ليس على الأرض كلها قانون أو نظام يمنعك من إطلاق البصر..
فلذلك حينما ينفرد الدين ببعض الأوامر، فهذا يؤكد الإخلاص في الإنسان.
****
أ- د / محمد راتب النابلسى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق