مسافرٌ إلى الله

إن العبد مسافرٌ إلى الله في كل لحظةٍ من لحظات حياته، شاء أمْ أبى، كالقوم 

الذين تُقِلُّهم سفينةٌ، فهي تمشي بهم مُتَّجهة إلى الشاطئ الآخر، ناموا أم 

استيقظوا فهي تمشي بهم ليلَ نهارَ.

فالمفرِّطُ غافلٌ عن السفر، منشغلٌ عن تحصيل الزاد، فسرعان ما تصِل بهم 

السفينةُ إلى الشاطئ وتتركهم، فيجدُ نفسَه بلا زادٍ 

{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }

[عبس: 34 – 37].

وأما المؤمن، فهو مستيقظٌ للرحلة، 

مسافرٌ إلى الله بقلبه قبل أن يُسافر بجسده.

فقد هاجر إلى الله وسابَقَ إليه، وبيَّن لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم 

أصولَ هذه الهجرة، فقال فيما ثبت في البخاري:

( المسلم مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده،

والمهاجرُ مَن هجَر ما نهى اللهُ عنه ) 

فهذا المسلم الحقُّ، قد سالم المسلمين جميعًا، فلا يحمِل لهم في قلبه

إلَّا الحُبَّ والودَّ، ولا يصِل إليهم منه إلَّا الخيرُ والنفعُ.

ثم رأى الذنوب تتنوَّع، والفتن تتلوَّن، فعلِم أنها نارٌ في صورة شهواتٍ، 

وعذابٌ في صورة ملذَّاتٍ، فولَّاها ظهره،

وتذكَّر ما رواه الشيخان أن رسول الله قال:

((حُفَّتِ النارُ بالشهوات، وحُفَّتِ الجنةُ بالمكاره))

فهذا السالكُ إلى الله لا تمرُّ عليه لحظةٌ من عمره إلَّا وسخَّرها في طاعة الله، 

فهو إن وجد شيئًا يُقرِّبُهُ إلى الله سارع إليه؛ كالصلاة أو الصيام،

أو بر الوالدين، أو إكرام الضيف، أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، 

أو صِلة الأرحام، أو تلاوة القرآن.

المباحات:

بل إنه لا يتوقَّف عند العبادات، بل يستحضر النيات

الصالحة في المباحات فيقلبها إلى طاعات:

فإذا أكل: لم يأكل بنية التلذُّذ ككثير من الناس، بل أكل بنية التقوِّي بهذا الأكل 

على طاعة الله، فصار الأكلُ في حقِّه طاعةً وقُرْبةً.

وإذا لبسَ: لم يلبس بلا نيةٍ، بل لبس بنية التزام أمر الله في ستر عورته، 

والتزام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في التجمُّل فيما رواه مسلمٌ: 

((إنَّ اللهَ جميلٌ يُحبُّ الجمال))

فصار اللبسُ في حقِّه طاعةً وقُرْبةً.

وإذا نام: لم ينمْ عادةً، بل نوى أن يستريح بالنوم لكي يستعينَ به على قيام 

الليل، وعلى الاستيقاظ للفجر، فصار النومُ في حقِّه طاعةً وقُرْبةً.

وإذا اجتهد في تحصيل المعاش: نوى بجمْع المال كفَّ نفسِه عن المسألة، 

والإنفاقَ على الوالدين أو الزوجة والأطفال، ونوى بجمْع المال التمكُّن

من صِلة الرَّحِم به، أو تحصيل القدرة على الحج والعمرة ونحو ذلك.

فالمسافر إلى الله يعلمُ أن أوقاته فُرصٌ ثمينةٌ لاكتساب الأجْر، وتحصيل 

الثواب، فتراه في جلسات الغافلين ذاكرًا، وفي ليل النائمين قائمًا، وفي خوض 

الخائضين صامتًا، وفي وسط العاصين طائعًا، وحينما يُنادي المنادي: 

“حيَّ على الصلاة” ملبِّيًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق