ثقوب سوداء في محيط العقل بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر
ثقوب سوداء في محيط العقل
العقل حاوية مطاطة تتسع لكل الحكايا، ولا يضيق أبدا بشئوننا التافهة، وباستطاعته مط الروايات الصغيرة ليجعل منها جبلا من القصص تملأ حواشيه الواسعة، فإذا لم يجد طحنا، أعاد اجترار الأحداث البعيدة ليشغلنا عن اللحظة المعاشة.
فيذكرك بمعركة دارت بينك وبين صديق تلقيت فيها أول صفعة، أو يجسد من هلام ذاكرتك وجه امرأة تركتك عند أول محنة؛ أو يفتح نافذة على مخاوف غدك، فيذكرك باختبار قاس عليك اجتيازه أو مقابلة مرتقبة ترتجف لها أوصالك أو سفر إلى مجهول ستضطرك الظروف إليه.
والتحكم في النشاط العقلي أمر شاق للغاية، وإن كان مفيدا، لأن العقل يأخذك غالبا إلى بقع مظلمة تدور في رحاها ساعات وساعات، لتخرج منهك القوى خائر العزم، وكأنك خارج للتو من معركة حامية الوطيس مع غريم بئيس.
فلماذا لا يأخذك العقل في شطحاته إلى أول نظرة عاشقة أو أول حضن دافئ؟ ولماذا لا يستدعي ذكرى تكريم كنت فيه البطل على منصة التتويج أو تفاصيل أول رسالة تلقيتها من ابنة الجيران بعد شهور من الضنى؟ لماذا يحملنا العقل غالبا إلى دوامات رمادية ليعيد اجترار مآسي الحياة وكأننا في حاجة إلى مزيد من الوجع؟ ربما تكون تربيتنا الخطأ التي جعلتنا ننظر في نصف المرآة المكسور، وإلى بشاعة الشرخ لا إلى جمال السور.
ربما تكون نظرتنا الناقدة الناقمة لاكتشاف ثغرات في الرسم وسبعة فروق بين لوحتين هي التى حرمتنا نعمة تذوق جمال الزهرة في محيطها الشوكي والشمس فوق بساطها القرمزي.
فنحن قوم تشغلنا الفاصلة بين عبارتين عن نبرات القائل أو صدق المقال، ونبادر طواعية إلى تأويل النص والقفز فوق الحروف لانشغالنا الدائم بإثبات استنتاجاتنا السوداوية المحبطة.
ينشغل معظمنا بالفيء التافه، ويتغافل عن الخيل التي تدور في حمية حول الجبل لتسحق الأحلام والجماجم.
فإذا سألنا صديق عن رأينا في ساعة معصمة، أو صديقة في ثوب زفافها، انبرت أعيننا لتفتش في التفاصيل الدقيقة عما يؤكد تفاهة أحكامنا وسخائم قلوبنا.
ولعلنا اكتسبنا تلك العادة البائسة من محيطنا المشحون بالخيبات والمآسي.
فبين حرب تدق طبولها، وأرض توشك أن يغيض ماؤها، وعدو متربص عند الحدود، وأمراض فتاكة وعلاقات هشة، تتأرجح أفكارنا صباح مساء، فلا تلفت أنظارنا نبتة جديدة بجوار مقلب القمامة، ولا شجرة سرو بين بنايتين شاهقتين، ولا عينين بريئتين لكف طفل يسألنا كسرة خبز فوق الرصيف.
فطواحين رؤوسنا الهرمة لا تكف عن إنتاج الضجيج، وكأننا خُلقنا في الحياة لنتأملها لا لنعيشها.
يحكى أن أرسطو كان يمشي على الشاطئ ذات غروب، منشغلا عن حمرة الشفق وزرقة البحر، فإذا به يلتقي وجها لظهر مع رجل شغله البحر عن نداء السماء. كان الرجل يذهب إلى البحر ويعود بحماس لا يفتر، مما استرعى انتباه صاحبنا الفيلسوف.
اقترب أرسطو من الرجل، وسأله عما يصنع، فأشار إلى حفرة صغيرة بين الرمال، وقال: “أحاول جاهدا أن أنقل ماء البحر كله إلى الرمال، فأحمل ما أستطيع منه في هذه الملعقة وأعود لألقمه فم هذه الحفرة الشرهة.”
تعجب أرسطو، وقال ساخرا: “لو نقلت الماء بالسطل لكان جهدك أنفع! كيف تريد أيها المأفون أن تنقل ماء البحر كله إلى حفرة ضيقة كهذه؟” فأجاب الرجل: “قد أنجزت مهمتي.
وكيف تريد أنت أن تنقل علوم السماء وما حوت والأرض وما طوت إلى عقلك الصغير يا هذا؟” كان الرجل هيراقليطيس، وكان يعلم المعلم الأول درسا حتما لم ينسه طوال تأملاته.
يمكننا إذن أن نمارس كدنا الغبي من طلوع الشمس وحتى الغسق لنجني ما نشاء من خيبات.
وبمقدورنا كذلك أن نصاحب الحياة، وأن نروض عقولنا على رؤية الأسنان البيضاء في جيفة كلب ميت.
فإذا صوب عقلك عينيك على نقطة سوداء فوق سبورة الحياة يا صديقي، فذكره أن البياض يحيطها من كل جانب، ولو شدك من يدك إلى ذكرى، فاجعلها ذكرى باسمة، وإن دفع بك إلى جرف المستقبل فعلمه حسن الظن بالله.
فخلف أستار المحن، حتما تختبيء آلاف العطايا. وعند الصباح، كما يقول المثل، يحمد القوم السرى.
روضوا عقولكم على السباحة في محيط الأفكار الإيجابية، وانبذوا الطيرة والتشاؤم، فرب الخير حتما لا يأتي إلا بالخير.
عبد الرازق أحمد الشاعر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق