الستر.....د. مصطفى محمود من كتاب / في الحب و الحياة

 



إن أسوأ ورطة نقع فيها هى أن يستحوذ علينا أى شىء جداً .. جداً .

حتى الفرح حينما يستحوذ علينا جداً .. جداً .. فإنه يهزنا بما يشبه الحزن .. إننا من فرط خوفنا على هذا الفرح .. و من فرط لهفتنا على أن يطول .. و من فرط ذعرنا من أن ينتهى .. نفرح بحزن .. نفرح بخوف .. نفرح و الدموع تترقرق فى أعيننا ..

 

و الحب جداً .. جداً .. هو حب مُر غَيور ملتهب أعمى يتعب صاحبه لدرجة أنه ينقلب إلى كراهية و عداوة ..

المُحِب جداً .. جداً .. يكره حبيبته من فرط حبه لها .. لأن حبه يكلفه و يرهقه و يؤرقه .. فهو يتمنى لو أنها تعذبت و تألمت و سهرت و تشردت مثله ..

يتمنى لو أنها كانت على شفا الموت و نادته .. لو أنها كانت تحترق و مدت له يديها لينقذها .. لو أنها كانت تعبده حباً و هو يتمنع عليها .. لو أنها كانت تخلص له و هو يخونها ..

إن عذابه يجعل مخيلته تموج بصور العداوة .. و الإنتقام .. و التشفي ..

 

و الثراء جداً .. جداً .. هو فقر مدقع فى نفس الوقت .. فقر فى الحواس ..

حواس الغَنيّ جداً .. جداً .. المترف جداً .. الشبعان .. المتخم .. تتبلد و تكسل أشواقه .. و لهفاته تكسل ..

و لماذا يشتاق .. و لماذا يتلهف .. و كل شىء بين يديه ..

 

و الجوع جداً يقتل حتى الإحساس بالجوع .. و ينتهي بموت الحواس .. و بشبع الفناء و قناعة الجدث الهامد ..

 

و الفقر جدا .. يؤدى إلى الاستهتار و الاسراف و الاستهانة بالرزق من فرط قلته ..

 

و الشيخوخة جدا تؤدى إلى انحلال العقل .. و العودة بالتفكير إلى سذاجة الطفولة .. و هذيانها ..

 

و الضعف جدا .. يؤدى الى جبروت الشخصية و قسوتها .. و أصحاب العاهات جبابرة .

 

و الاغراق فى اللذة يؤدى إلى النفور من اللذة . و الارتداد إلى الدين و الصومعة ..

 

و الاستقامة بشدة تؤدى إلى الضيق بالاستقامة .. و كل شىء يزيد على حده ينقلب إلى ضده ..

 

و جدا .. جدا .. هى الجرس الذى يدق لتنقلب الصفات على رأسها .. البركات تصبح لعنات .. و السيئات تصبح حسنات ..

السعادة ليست فى أن يكون عندك الكثير جدا ..

و إنما السعادة فى أن تحب الدنيا و الناس .. و أن تواتيك الفرصة لتأخذ بنصيب قليل من خيراتها ..

إن القليل الذى تحبه يسعدك أكثر من الكثير الذى لا تحبه .

و القليل يحرك الشهية .. بينما الكثير يميتها .. و بلا شهية لا وجود للسعادة ..

و القليل يحفز على العمل .. و فى العمل ينسى الانسان نفسه .. و ينسى بحثه عن السعادة و هذا فى الواقع منتهى السعادة .

و العمل تشحيم ضرورى للعقل و القلب و المفاصل .. و بدون العمل تصدأ المفاصل و يتعفن القلب و ينطفىء العقل .. و ينخر سوس الفراغ و البطالة فى المخ ..فتبدأ سلسلة من الأوجاع يعرفها أفراد الطبقة الراقية .

و لذلك أعتقد أن أسعد الطبقات هى الطبقة المتوسطة .. لأنها الطبقة التى تملك القليل من كل شىء ، فهى ليست معدمة مفلسة كالطبقة الدنيا ، و ليست متخمة كالطبقة الراقية ..

و لهذا فهى طبقة التى تملك الدوافع .. و الآمال .. و المطامع و المثل العليا .. و الأخلاق .. و الامكانيات ..

و هى لهذا .. الطبقة التى يخرج منها العلماء و الفنانون و العباقرة و الزعماء و الأنبياء ..

و من فضائل الوسطية أنها تضغط الطبقات و تذيبها فى عجينة متوسطة خصبة ..و تشغل جميع الأيدى بالعمل ..

و لهذا فأنا أشعر بالسعادة .. لأنى رجل متوسط .. إيرادى متوسط .. و صحتى متوسطة .. و عيشتى متوسطة ..

و عندى القليل من كل شىء .. و هذا معناه أن عندى الكثير من الدوافع و الدوافع هى الحياة .

الدوافع هى الترجمة الحرفية لكلمة روح ..

عندك دوافع معناها عندك روح .. معناها عندك أمل .. طموح .. حب .. شغف .. شهية .. رغبة .. كل وسائل السعادة ..

و أمى لم تكن تفهم الفلسفة .. و لكنها كانت تملك فطرة نقية تفهم معها كل هذا الكلام دون أن تقرأه .. و كانت تطلق عليه اسما بسيطا فصيحا معبرا .. هو .. الستر ..

و الستر معناه فى القاموس الشعبى .. القليل من كل شىء و الكثير من الروح ..

و أنا بعد ثلاثين سنة من التفلسف و قراءة المعاجم و المراجع و المصطلحات .. لم أجد أفصح من هذه الكلمة البسيطة .. الستر ..

و لهذا فأنا أطلبه لك كما كانت أمي تطلبه لى .. و أعتبر أنى بهذا أكون قد طلبت لك كل شىء .

 

د. مصطفى محمود

من كتاب / في الحب و الحياة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق