رأس نورس
رأس نورس
في الخامس عشر من ديسمبر الجاري، تجاوزت نورس النعيمي عتبة بيتها في طريقها المحفوف بالرصاص نحو الحقيقة، لكنها لم تستطع اجتياز عتبة العشرين لأن أربعة أعين جاحظة كانت بانتظار طلتها المألوفة.
وما هي إلا بضع رصاصات غادرة، حتى تلوى جسد الفتاة الغض حتى آخر نبضة في وحل شارعها البارد. وفي ومضة برق، كانت الكاميرات الموصلية تلتف حول رأسها الصغيرات لتبث رسالة رعب للنابشين في قبور الحقيقة في بلد يقتل المرء فيها دون أن يدري فيم قتل.
وبين يدي القاتل، وقفت أم نورس هازئة برأسه المتدلي من مشنقة الندم تؤكد له في نبرة واثقة أنها ليست غاضبة منه، فلقد حمل عن حماقة وزر فقيدتها فوق ظهره ليلقى الله يوم الدين بيدين تقطران دما، بينما زفت الملائكة ابنتها إلى الجنة في عرس جنائزي مهيب.
لكنها عادت بقلب مكلوم وخور ثكلى لتصب في أذنيه رصاص كلماتها مذابا: "أنت جاهل يا ولدي، لكن ابنتي تجيد لغتين." رحلت نورس بعد أن تركت بقعة دم متجلطة فوق كتابها "مدخل إلى حقوق الإنسان" الذي وجد في حقيبة يد شدت حزامها حتى آخر قبضة، فلم يظفر سيف وليد حسينة المولى من فعلته الشنعاء إلا بحقيبة جلدية بلا حزام، وجملة من الشهادات التي لم تعد تفيد أحدا بعد نورس، وأوراق امتحان تعرضت له في يوم مقتلها، ولعنات متتابعة إلى يوم الدين من حلوق لن تذوق راحة بعد رحيل نورس.
وسط أوراقها المغضنة، تركت نورس صورة لم تكتمل لوجه صغير لن يبتسم بعدها إلا لماما.
ذلك الوجه الذي لم يبتسم للكاميرا التي رافقت أصابعه الصغيرة وهي تخرج ما تبقى من دماء في بقايا أخته المغدورة من كيس بلاستيكي لم تخرج به.
وعلى قناة الموصلية، ظهر وجه نورس، لكنه لم يكن باسما، وفوقه شريط أسود وذكريات بائسة.
وبموت نورس، ارتفع عدد الصحافيين القتلى في الموصل إلى سبعة على مدار ثلاثة أشهر أخيرة، ناهيك عمن صادفه الحظ ولم يخرج من بيته يوم وقف أمامه المتربصون.
ورغم هذا، لا تعتبر الموصل بدعا من المدن، صحيح أنها ثاني أكبر مدن العراق بعد بغداد، إلا أن عدد القتلى وسجناء الرأي فيها لا يختلف كثيرا عن بقية مدن الحمق العراقية.
فقد وزعت الفتنة الطائفية على المدن حصصها من الدماء والحزن والفقد منذ عقد ونيف.
وهكذا، قرر عام 2013 الثقيل أن يضم رفات نورس لقافلة من الشهداء والقتلى تجاوز عددهم السبعة آلاف قتيل ليسجل رقما جديدا في سجلات الإفساد البشري الذي تنبأت به الملائكة ذات خلق.
تستطيع العراق الآن أن تباهي سائر الأمم بإنجازاتها غير المسبوقة في القتل والتشريد والعنف الطائفي غير المسبوق، ويستطيع العراقيون أن يعلنوا في خيبة أن عشرة أعوام من القتل على الهوية لم تكن كافية لتسوية خلافاتهم المذهبية، وأن مجاهدي العراق أولى برؤوس أهلها.
حين سقط صدام، ظن الطائفيون من الجانبين أنهم قادرون على ابتلاع محيط البشر من حولهم، وأن حربهم المقدسة ضد الجلود ستؤول إلى ملك لا يبلى.
ومرت السنون، وتوالت الجنازات وكثر الهرج، ولم يحظ أحد الفريقين بما سولت له أحلام اليقظة من خلافة. وسقط عراق الحضارة في هوة من المؤامرات العابرة للرؤوس، ليدفع العراقيون البسطاء من دمائهم شريانا جديدا لفرات حقد لا ينتهي.
ولأن أم نورس تعرف يقينا أن رؤوس الأصابع التافهة التي حملت مسدسا محشوا بالكراهية لا تحمل فكرا ولا تستطيع تغيير مسار أحداث، توجهت المكلومة بنداء لرئيس وزراء العراق نوري المالكي تناشده اللقاء.
صحيح أن الرجل مشكورا لبى نداءها وأعلن أنه سيلتقي بها، لكنني أشك في قدرة الرجل على إعادة الهدوء إلى شوارع الموصل، لأنها أصبح جزءا من معادلة الفشل التي يدور في فلكها العراق.
فعراق اليوم في حاجة إلى رجل يقدم المصالحة على الثأر والاستقرار على الانتصار في حرب لا خاسر فيها إلا الوطن.
صحيح أن أحدا لن يستطيع أن يستعيد رأس نورس، أو يتمكن من إعادة الكاميرا إلى كتفها، إلا أنه بوسع الحاكم المنحاز لقضايا شعبه أن يزيل بقعة الدم المتجلطة من فوق كتاب حقوق الإنسان الذي تركته نورس في حقيبة يد بلا حزام.
ويستطيع المواطنون التخلي عن أحزمتهم الناسفة بعد عقد من الفشل الذريع والفساد الأعظم. أما أن يكتفي المالكي بلقاء يغازل فيه الصحافة والإعلام، ليدعي أنه حريص على رؤوس الصحافيين المتطايرة، فهذا نوع من الدجل الرخيص والدعاية الكاذبة.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
في الخامس عشر من ديسمبر الجاري، تجاوزت نورس النعيمي عتبة بيتها في طريقها المحفوف بالرصاص نحو الحقيقة، لكنها لم تستطع اجتياز عتبة العشرين لأن أربعة أعين جاحظة كانت بانتظار طلتها المألوفة.
وما هي إلا بضع رصاصات غادرة، حتى تلوى جسد الفتاة الغض حتى آخر نبضة في وحل شارعها البارد. وفي ومضة برق، كانت الكاميرات الموصلية تلتف حول رأسها الصغيرات لتبث رسالة رعب للنابشين في قبور الحقيقة في بلد يقتل المرء فيها دون أن يدري فيم قتل.
وبين يدي القاتل، وقفت أم نورس هازئة برأسه المتدلي من مشنقة الندم تؤكد له في نبرة واثقة أنها ليست غاضبة منه، فلقد حمل عن حماقة وزر فقيدتها فوق ظهره ليلقى الله يوم الدين بيدين تقطران دما، بينما زفت الملائكة ابنتها إلى الجنة في عرس جنائزي مهيب.
لكنها عادت بقلب مكلوم وخور ثكلى لتصب في أذنيه رصاص كلماتها مذابا: "أنت جاهل يا ولدي، لكن ابنتي تجيد لغتين." رحلت نورس بعد أن تركت بقعة دم متجلطة فوق كتابها "مدخل إلى حقوق الإنسان" الذي وجد في حقيبة يد شدت حزامها حتى آخر قبضة، فلم يظفر سيف وليد حسينة المولى من فعلته الشنعاء إلا بحقيبة جلدية بلا حزام، وجملة من الشهادات التي لم تعد تفيد أحدا بعد نورس، وأوراق امتحان تعرضت له في يوم مقتلها، ولعنات متتابعة إلى يوم الدين من حلوق لن تذوق راحة بعد رحيل نورس.
وسط أوراقها المغضنة، تركت نورس صورة لم تكتمل لوجه صغير لن يبتسم بعدها إلا لماما.
ذلك الوجه الذي لم يبتسم للكاميرا التي رافقت أصابعه الصغيرة وهي تخرج ما تبقى من دماء في بقايا أخته المغدورة من كيس بلاستيكي لم تخرج به.
وعلى قناة الموصلية، ظهر وجه نورس، لكنه لم يكن باسما، وفوقه شريط أسود وذكريات بائسة.
وبموت نورس، ارتفع عدد الصحافيين القتلى في الموصل إلى سبعة على مدار ثلاثة أشهر أخيرة، ناهيك عمن صادفه الحظ ولم يخرج من بيته يوم وقف أمامه المتربصون.
ورغم هذا، لا تعتبر الموصل بدعا من المدن، صحيح أنها ثاني أكبر مدن العراق بعد بغداد، إلا أن عدد القتلى وسجناء الرأي فيها لا يختلف كثيرا عن بقية مدن الحمق العراقية.
فقد وزعت الفتنة الطائفية على المدن حصصها من الدماء والحزن والفقد منذ عقد ونيف.
وهكذا، قرر عام 2013 الثقيل أن يضم رفات نورس لقافلة من الشهداء والقتلى تجاوز عددهم السبعة آلاف قتيل ليسجل رقما جديدا في سجلات الإفساد البشري الذي تنبأت به الملائكة ذات خلق.
تستطيع العراق الآن أن تباهي سائر الأمم بإنجازاتها غير المسبوقة في القتل والتشريد والعنف الطائفي غير المسبوق، ويستطيع العراقيون أن يعلنوا في خيبة أن عشرة أعوام من القتل على الهوية لم تكن كافية لتسوية خلافاتهم المذهبية، وأن مجاهدي العراق أولى برؤوس أهلها.
حين سقط صدام، ظن الطائفيون من الجانبين أنهم قادرون على ابتلاع محيط البشر من حولهم، وأن حربهم المقدسة ضد الجلود ستؤول إلى ملك لا يبلى.
ومرت السنون، وتوالت الجنازات وكثر الهرج، ولم يحظ أحد الفريقين بما سولت له أحلام اليقظة من خلافة. وسقط عراق الحضارة في هوة من المؤامرات العابرة للرؤوس، ليدفع العراقيون البسطاء من دمائهم شريانا جديدا لفرات حقد لا ينتهي.
ولأن أم نورس تعرف يقينا أن رؤوس الأصابع التافهة التي حملت مسدسا محشوا بالكراهية لا تحمل فكرا ولا تستطيع تغيير مسار أحداث، توجهت المكلومة بنداء لرئيس وزراء العراق نوري المالكي تناشده اللقاء.
صحيح أن الرجل مشكورا لبى نداءها وأعلن أنه سيلتقي بها، لكنني أشك في قدرة الرجل على إعادة الهدوء إلى شوارع الموصل، لأنها أصبح جزءا من معادلة الفشل التي يدور في فلكها العراق.
فعراق اليوم في حاجة إلى رجل يقدم المصالحة على الثأر والاستقرار على الانتصار في حرب لا خاسر فيها إلا الوطن.
صحيح أن أحدا لن يستطيع أن يستعيد رأس نورس، أو يتمكن من إعادة الكاميرا إلى كتفها، إلا أنه بوسع الحاكم المنحاز لقضايا شعبه أن يزيل بقعة الدم المتجلطة من فوق كتاب حقوق الإنسان الذي تركته نورس في حقيبة يد بلا حزام.
ويستطيع المواطنون التخلي عن أحزمتهم الناسفة بعد عقد من الفشل الذريع والفساد الأعظم. أما أن يكتفي المالكي بلقاء يغازل فيه الصحافة والإعلام، ليدعي أنه حريص على رؤوس الصحافيين المتطايرة، فهذا نوع من الدجل الرخيص والدعاية الكاذبة.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق