كرسي هزاز.. ‏ من مجموعة/ قُبلة حارة الألوان - منتديات غزل وحنين

كرسي هزاز.. ‏ من مجموعة/ قُبلة حارة الألوان - منتديات غزل وحنين
  كرسي هزاز.. ‏ من مجموعة/ قُبلة حارة الألوان




كرسي هزاز..



من مجموعة/ قُبلة حارة الألوان



في شرفة البيت الهرم أخذت تتمايل بين ذراعيه في هدوء، مسندة رأسها لصدره، وهو يحيطها في رعاية بيديه الشديدتين. أغمضت عينيها وهى تتحسس يديه متمسكة به، وسرحت مع صوت الأسطوانة الدائرة في (الجرمافون) العتيق:
" أحب زهر البنفسج ..
رمز الجمال الحزين ...
عبيره يسكر ويسحر...
ويسعد المحرومين .... "
نظرت إلى ركن الشرفة القريب لترى أقاصيص البنفسج المزهرة تبدو وكأنما تتمايل بدورها مع اللحن الرقيق.
دائماً كانت تشعر أن ذلك الزهر بالفعل حزين!! دائمًا...
منذ طفولتها - حين كانت تزور جديها وتلهو بتلك الشرفة المتسعة نفسها - كانت حين تقترب من أقاصيص البنفسج تشعر أنه حزين، فاتن، لكنه أيضًا حزين. وحينها كانت تركض نحو جدتها متسائلة، في كل مرة السؤال نفسه:
- "لم البنفسج حزين يا جدتي؟".
فتبتسم جدتها بوجهها الأسمر الفاتن رغم تقدمها في العمر وشعرها الفاحم المتهدل فوق جبينها، وتربت على شعرها:
- "لأنه مزهر يا حبيبتي...".
لم تكن تفهم!
كانت ترى جدتها وهي تعتني به وترويه على الدوام، والغريب أن أبهى مشاهده حين كان يزهر تمامًا، كانت وريقاته تستميل وترنو نحو الأرض فيبدو كملاك حزين.
وعندما مرضت جدتها، كانت حين تفيق من غفواتها الكثيرة تلتفت لتوصيها:
- "البنفسج يا عزيزتي ..هناك تجدين هدأة النفس، هناك بين وريقاته".
ويوم أن رحلت، رحلت كل زهرات البنفسج مع صاحبتها.
وجلس جدها يومها وحيدًا بين أقاقيص البنفسج الفانية، وقطرات من ندى- أو دمع لا تعلم حقًا - كانت تتراقص على حافة جفنيه وهو يتمايل بين ذراعيه مثلما تفعل هي الآن تمامًا، ويدير الأسطوانة القديمة نفسها، ودمعاته حين فك أسرها تتساقط على الوريقات الذابلة.
يومها اتهمه الجميع بالجنون، وبأنه فقد عقله ليترك الأقارب والمعزين ويجلس في شرفته يستمع لاسطوانات؟!
"معقول ؟!..".
"هل الصدمة أودت به للجنون؟!".
"تعلمون كم كان يحبها!.. مسكين..".
"بالطبع، أليست رفيقة عمره!..".
"لا يجب أن يترك وحيداً...".
"اصمتوا....". هكذا صرخت هي..
هي الوحيدة التي كانت تشعر بجدها، هي والبنفسج الشهيد، واقتربت منه وجلست أمامه أرضًا تطالع عينيه رماديتي اللون والحزن قابع بداخلهما، فمسح على رأسها تمامًا كما كانت جدتها تفعل وابتسم، فقالت:
- "لا تبكِ يا جدي..".
- "هذا ضروري يا حبيبتي...".
- "......".
- "تدور بنا دائرة الحياة وتصبح نفوسنا كأزهار البنفسج الجافة، تحتاج- تمامًا كالبنفسج- لريها بقطرات العبرات تلك كي لا ننسى أننا بشر... كي تزهر أنفسنا من جديد، كما يزهر البنفسج.. أتصدقين يا صغيرتي أن أبهي صور البنفسج تشعرك أنه حزين !".
أومأت حينها لجدها وقالت:
- "نعم، أعرف ذلك...".
وحينها ضمتهما ذراعاه وتمايلا معًا على النغم، غير عابئيْن بحديث من هنا. وأسندت هي رأسها على صدر جدها و.. وغفت..
غفت بين ذراعيه على صدر جدها ووسط أزهار البنفسج الحزين.
أفاقت من سبات ذكرياتها والأسطوانة تعود للمقطع نفسه:
" أحب زهر البنفسج ..
رمز الجمال الحزين ...
عبيره يسكر ويسحر...
ويسعد المحرومين .... "
اعتمدت بيديها على ذراعيه لتعتدل في جلستها، فطالعها لون ملابسها قاتم السواد، كما طالعتها حقيقة رحيل جدها اليوم أيضًا،
وتلمست ملوحة عبراتها بشفتيها وهمست كأنما ما زالت تحادثه منذ تلك الليلة في العام المنقضي:
- "كاد الزهر أن يهلك...".
ولمست بناظريها وريقات البنفسج المتفتحة وتابعت وعبراتها تتساقط عليه:
- "لكنه الآن ازدهر، البنفسج ازدهر ...".
وعادت تتمايل بين ذراعيه..
واللحن يتردد في أزلية....
و قد اغتال الغروب القرص البرتقالي، فأطلقت العنان لزخات عبراتها وذكرياتها..
معتمدة بيديها على.......
على كرسي هزاز.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق