خطوطنا الخضراء بقلم:عبد الرازق أحمد الشاعر

خطوطنا الخضراء بقلم:عبد الرازق أحمد الشاعر



خطوطنا الخضراء بقلم:عبد الرازق أحمد الشاعر

الأخضر خط مراوغ، لا يمتلك صرامة الأحمر القرمزي فوق الأوراق والحدود، لأنه يمتلك مساحة من السفسطة تسمح له بتجاوز المنطق أحيانا والاتفاقيات كثيرا. وهو خط هلامي قادر على التمدد فوق المساحات السياسية الرخوة والرمال المتواطئة. وهو قادر بتلافيفة السياسية القذرة أن ينتصر على صلابة الخطوط الحمراء التي يجيد العرب ترسيمها بعد كل حرب ونكسة. وهو قادر على المراوغة والتضليل، ليعني حدودا سياسية هنا أو فواصل إدارية هناك. فقط يتوقف الأمر على مساحة الفراغ المتاحة لتمدد الجرافات الإسرائيلية فوق حدودنا المستباحة.

لكن الإسرائيليين الطيبين للغاية مستعدون دوما لقص أسلاكه الافتراضية وفتح كوة في جدارهم الاحتلالي لعلاج مرضى أعدائهم. تؤكد الإحصائيات أن ثلاثين ألف مواطن من غزة يعبرون الخط الأخضر سنويا لغايات شتى، أغلبهم من المرضى الذين يغضون أطرافهم عن ألوان الخطوط حال عبورها. وفي مشافي الأرض المحتلة التي تفتح صدورها دوما لجروحهم المتقيحة، يتلقى الفلسطينيون رعاية تعجز مشافيهم المحاصرة عن تقديمها. فقط يحتاج الأمر إلى وساطة سلطة رام الله التي لا تألو جهدا في تذويب الفواصل السياسية بين الحدود والقيام بدور الوساطة المستحيلة بين القادمين من الظلام والقادمين من المهاجر.

ومؤخرا كشفت مصادر إسرائيلية النقاب عن تجاوز الطفلة آمال عبد السلام إسماعيل هنية الأعتاب الخضراء لتلقى العلاج في مستشفى شنايدر بتل أبيب بتنسيق بين سلطات الجيش الإسرائيلي وحكومة غزة ووساطة فتحاوية بالطبع. صحيح أن حالة آمال السياسية تختلف عن مثيلاتها في غزة، إذ أن الطفلة حفيدة رئيس الحكومة المقالة، وأن حالتها الصحية أكثر حرجا من حالات الكثيرات من العابرات لحدود الكراهية، وصحيح أيضا أنها عادت إلى مسقط حزنها بعد ثمانية وأربعين ساعة بالتمام والقلق بعد تشخيص حالتها على أنها ميئوس منها، إلا أن في الأمر ثمة دلالات رمزية مؤلمة.
فحالة آمال الصحية ليست أشد يأسا من حالة الكساد السياسي التي تعاني منها المنطقة لا سيما بعد عودة ليبرلمان بوجهه اليابس ليحتل شاشة التفاوض مع قليلي الحيلة من السياسيين في رام الله والذين لا يمتلكون أوراقا سياسية للضغط على خصومهم إلا التلويح بالاستقالة من مفاوضات عبثية عند كل تنازل. يتزامن ذلك مع تفاقم لأزمة دبلوماسية وسياسية وتجارية عند المعابر المصرية أدت إلى شلل شبه تام لمرافق غزة الحكومية والخاصة. لا حل إذن إلا بالتنسيق مع الرابضين خلف أسلاكهم الخضراء طالما فشلت التفاهمات الفلسطينية -الفلسطينية، والمناورات العربية - العربية في إخراج مستشفيات غزة من ظلامها الدامس، أو إخراج مرضاها من بواباتهم العروبية إلى أي فضاء.


يحق للسياسيين الإسرائيليين أن يبسطوا أساريرهم إذن أمام كاميرات العالم ليعلنوا بصفاقة أنهم أتقى المسيحين على وجه الأرض، لأنهم يعالجون حفيدة رجل لا يعترف بهم ويعلن في كل مناسبة أنه يسعى لتخليص العالم من شرورهم. ويحق لهاجاي سيجال أن يقسم بوكيد الأيمان أنهم أشد بابوية من البابا نفسه، لأنهم يطببون آمال في مستشفى استهدفتها صواريخ جدها أكثر من مرة.
ويحق للرئيس الفرنسي هولاند أن يتقدم باقتراح مهين يقضي بتخلي سلطة رام الله عن حق العودة مقابل وقف الاستيطان الذي تجاوز كل الخطوط الخضراء. ويحق ليديعوت أحرونوت أن تنشر خبر علاج آمال مقترنا بصورة هولاند الطيب الذي يريد أن يحول خطوط إسرائيل الخضراء إلى أسلاك ومتاريس في غفلة من القيادات العربية التي انشغلت بشئونها الداخلية عن حدودها الخضراء جدا مع الكيان الهلامي المتمدد في التاريخ والجغرافيا كسرطان ميئوس منه.


ربما يستحق هنية شيئا من اللوم بعد أن وضع بيد الصهاينة شفرة أخرى أشد حدة من سوابقها لتستخدمها إسرائيل في تمزيق الخرائط وحفر خطوط أقل اخضرارا فوق ربوعنا الذابلة. قد يكون اليأس من شفاء الأمة من أدوائها ما اضطر رجل حماس الأول إلى التضحية بآمال ملايين المبعدين مقابل عودة آمال إلى حضن عبد السلام وقد شفيت من آلام أمعائها التي صاحبتها منذ الولادة دون أن يدري. وربما تستحق حكوماتنا التي شرعت أسلاكها الحمراء في وجه الباحثين عن نفق، وأدارت ظهرها لأولى القبلتين بعضا من اللوم كذلك. وربما يكون عجز الدبلوماسية العربية وقواتها المسلحة عن فرض خطرطها الخضراء على الكيان المغتصب هو الذي أدى إلى تحول ال"آمال" إلى حالة "ميئوس منها" في واقع يأتيه ضباب التوقعات المؤلمة من كل مكان. لكن المؤكد أن الخطوط الخضراء تزداد اتساعا في حالة السلام كما الحال إثر كل الهزائم والنكسات.

عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق