ما هو وعد بلفور ؟ ومن أين أتى؟

 

 

في العام 1917م أصدر / آرثر جيمس بلفور /

تصريحا مكتوبا باسم الحكومة البريطانية الى اللورد "روتشيلد"

يتعهد فيه بإنشاء وطن قومي لليهود

انتخب بلفور في البرلمان وعمل وزيرا لأسكتلندا عام 1887م، وعمل وزيرا لشئون ايرلندا من عام 1887م لغاية 1891م. ثم عمل وزيرا للخزانة لبريطانيا واصبح في عام 1902م لغاية 1905 رئيسا للوزراء..

في 2 نوفمبر عام 1917م أصدر تصريحا مكتوبا باسم الحكومة البريطانية الى اللورد "روتشيلد" يتعهد فيه بإنشاء وطن قومي لليهود، وارتبط اسمه عند العرب بذلك التصريح الذي سمي بوعد بلفور. (نص وعد بلفور في قسم الوثائق في نهاية الكتاب)

تلقَّى بلفور تعليماً دينياً من أمه في طفولته، واهتم بتعاليم العهد القديم، خصوصاً في تفسيراتها الحرفية البروتستانتية التي تدعي بان فلسطين هي ارض الميعاد للشعب اليهودي. ورؤية بلفور لليهود متأثرة بالرؤية الألفية الاسترجاعية التي تراهم باعتبارهم شعباً مختاراً ومجرد وسيلة للتعجيل بخلاص البشر، وهي الرؤية التي تمت علمنتها فتحوَّل اليهود إلى الشعب العضوي (المختار) المنبوذ.

ويتجلى هذا المزيج من الكره والإعجاب من جانب بلفور في تلك المقدمة التي وضعها بلفور في مقدمة كتاب سولوكوف "تاريخ الصهيونية" حيث يبدي معارضته لفكرة المُستوطَن البوذي أو المُستوطَن المسيحي. فالمسيحية والبوذية من وجهة نظره هما مجرد أديان، ولكنه يَقْبل فكرة المُستوطَن اليهودي لأن "العرْق والدين والوطن" أمور مترابطة في حالة اليهود كما أن ولاءهم لدينهم وعرْقهم أعمق بكثير من ولائهم للدولة التي يعيشون فيها. إن هذا الشعب العضوي يتميَّز أعضاؤه بالنشاط والحركية، ولذا فقـد حقـقوا نجـاحاً باهراً في المجتمع.

لكن بلفور في نفس الوقت يرى ان هذا الشعب العضوي المختار هو أيضاً جماعة أجنبية معادية تؤمن بدين هو محل كره مُتوارَث من المحيطين بها، أدَّى وجودها في الحضارة الغربية إلى بؤس وشقاء استمرا دهراً من الزمان وتطلب ان يرتاح المجتمع البريطاني من هذا الفائض البشري الغير منتج الذي يتعاظم عدده كلما مر الوقت. ولأن تلك الحضارة لا تسـتطيع طَرْد أو اسـتيعاب هذه الجماعة، فهم يتسببون في كوارث تحيق بإنجلترا كما فعل يهود اليديشية المهاجرون إليها. وان بلفور يدرك جيدا أن ولاء اليهود للدولة التي يعيشون فيها ضعيف إذا ما قُورن بولائهم لدينهم وعرْقهم، وذلك نتيجة طريقتهم في الحياة ونتيجة عزلتهم. وخلص بلفور إلى أنه ليس من مصلحة أي بلد أن يكون فيه يهود مهما بلغت وطنيتهم وانغماسهم في الحياة القومية.

وانطلاقاً من كل هذا، فقد تبنَّى قانون الغرباء الذي صدر بين عامي 1903 و1905 م والذي كان يهدف إلى وضع حدٍّ لدخول يهود اليديشية إلى إنجلترا. وقد أدَّى موقفه هذا إلى الهجوم عليه من قبَل المؤتمر الصهيوني السابع 1905م حيث وُصفت تصريحاته بأنها "معاداة صريحة للشعب اليهودي بأسره"، كما هاجمته بعض الصحف البريطانية. وقد يبدو الأمر لأول وهلة وكأنه نوع من التناقض الواضح الذي يقترب من الشيزوفرانيا، ولكن أفكار بلفور الاسترجاعية (علمانية كانت أم دينية تعبِّر عن رغبة في التخلص من اليهود لخدمة الحضارة الغربية. فالشعب العضوي المنبوذ لا يمكن أن يحل مشكلته داخل التشكيل الحضاري الغربي عن طريق الاندماج في المجتمعات الغربية، وإنما يمكنه حلها من داخل التشكيل الاستعماري الغربي عن طريق التحول إلى مادة استيطانية نافعة بيضاء تُوطَّن خارج أوربا في أية بقعة في آسيا أو أفريقيا. وبالفعل، تعمَّق اهتمام بلفور بالمسألة اليهودية حين حضر هرتزل وتفاوض مع وزير المستعمرات "جوزيف تشامبرلين" ووزير الخارجية "لانسدون" لايجاد وطن لليهود خارج اوروبا فتم عرض مشروع اوغندا وغيره.

في عام 1905 م، قام بلفور بمقابلة حاييم وايزمان في مانشستر وأُعجب به كثيراً، ولكنه نسي فكرته الصهيونية إلى حدٍّ كبير في فترة الحرب. ثم قابله مرة أخرى عام 1915 م وناقش معه الأهداف الصهيونية بعد أن كانت الوزارة البريطانية قد ناقشتها عام 1914م وعندما عُيِّن وزيراً للخارجية في وزارة لويد جورج عام 1916م، عاد بلفور لاهتمامه القديم بالصهيونية بسبب تزايد أهمية فلسطين في المخطط الإمبريالي البريطاني. وقد بيَّن بلفور تصوُّره لمستقبل فلسطين في إحدى المذكرات حيث قال: إن الصهيونية، سواء أكانت على حق أم كانت على باطل، خيِّرة كانت أم شريرة، فإنها ذات جذور متأصلة في "تعاليم قديمة وحاجات حالية وآمال مستقبلية". التقت رؤية بلفور مع صديقه وايزمان بدفع الهجرة اليهودية بعيدا عن بريطانيا إبان تدفق المهاجرين اليهود من روسيا ومناطق الامبراطورية الروسية في اواخر القرن التاسع عشر حيث حدث قمع شديد لليهود في روسيا القيصرية وتعرضوا الى بعض المجازر هناك. تعامل بلفور مع الصهيونية باعتبارها قوة اقتصادية تستطيع التأثير في السياسة الدولية وكانت بريطانيا تطمع بابقاء تحالف اغنياء اليهود معها، وكان بلفور يطمع ان يساعده النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة على اقناع الرئيس الامريكي "ودرو ويلسون" بدخول الحرب العالمية الاولى مع بريطانيا ضد المانيا وتركيا.

كان بلفور شخصية ذكية وسياسي بعيد النظر والرؤية. كان يجمع بين الحزم مع اليهود على طريقته وبين العطف الانساني عليهم في الظاهر، وبدا هذا حينما اصدر وعد بريطانيا الشهير للصهيونية عام 1917م حينما شدد على الا تتضرر مصالح السكان الاصليين بما سينشأه اليهود في فلسطين من وطن لهم. وأما في الحقيقة فقد كان بلفور قلقا من تزايد عدد اليهود القادمين من روسيا الى بريطانيا وما يمكن ان يحدثوه من تغييرات في المجتمع البريطاني خصوصا وان غالبيتهم من المعدمين الفقراء. وقد ازداد قلقه اكثر بعد ان اقفلت الولايات المتحدة ابوابها للهجرة اليهودية بعد ان استوعبت الكثير منهم، فأصبح ضغط الهجرة على اوروبا الغربية حيث كانت بريطانيا امبراطورية لا يمكنها اخلاقيا وانسانيا الا ان ترفع شعارات انسانية لصالح المهاجرين اليهود.

لهذا وجد بلفور ان المنفذ الوحيد للتخلص من تدفق المهاجرين اليهود الى بريطانيا وتشجيع يهود بريطانيا بمغادرتها الا ان يكون هناك ما يشجع على ذلك فكان اولا عرض مناطق في العالم على اليهود لكي يقيموا عليها دولتهم، ولما لم يقبلوا كان وعد بلفور. بهذا يمكن القول بأن آرثر بلفور قد قام بمهنية سياسية عالية في فترة حرجة في السياسة العالمية، ولحساسية القضية فقد كان بلفور يمشي بأناة كما لو أنه يمشي على حد السيف في سياسته الداخلية والخارجية لأجل أن يخدم بريطانيا العظمى، وفي نفس الوقت لكي يبدو متعاطفا وصديقا لليهود.

لهذا يمكن القول، بأن بلفور لم يكن ليصدر الوعد الشهير بانشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، الا لانه كان وطنيا بريطانيا اولا وقبل اي شيء، وكان هدفه اولا واخيرا هو الحد من الهجرة اليهودية الى بريطانيا ونقل يهود بريطانيا الى خارجها وليس اكثر حتى انه شدد كثيرا على صديقه الصهيوني "حاييم وايزمان" لاقناعه بالموافقة على جعل الوطن اليهودي في شرق افريقيا وليس في فلسطين.

يقول ما معناه "كونور كروز أبريان" المتعاطف مع الصهيونية في كتابه (الملحمة الاسرائيلية والصهيونية) ذاكرا روح أحد الحوارات التي كانت تتم بين بلفور وصديقه وايزمان. قال أبريان، حينما حاجج بلفور الصهيوني حاييم وايزمان، "لماذا لا يوافق اليهود أن يُنشأوا لهم وطنا في افريقيا". رد وايزمان على بلفور، "انت كبريطاني لو طلب منك ان تستبدل انتماءك الى باريس وليس الى لندن لكي تعيش فيها فهل توافق؟" كان رد بلفور عليه، "ولكن لندن موجودة وانت لا توجد لك مدينة". حينها أجاب وايزمان، "القدس كانت موجودة حينما كانت لندن ما زالت مستنقعات بلا بشر".

الف بلفور عدة كتب في الفلسفة والدين منها: دفاع عن الشك الفلسفي 1879م، وملاحظات اولية لدراسة اللاهوت 1893م، ودراسة في العقائد المألوفة 1923م.

هذا، ولقد قيل الكثير عن مبررات وعد بلفور، الذي صنع نكبة للفلسطينيين، الذين كانوا آمنين في وطنهم فصاروا بعده لاجئين. وهنا يغرينا ان نقتبس بعض ما قيل عن وعد بلفور.. من مقال بحثي قيم للدكتور "ابراهيم حمامي"، تحت عنوان، "قرنين على وعد بلفور"، من البحث نقتطع بعض الفقرات ونشير الى غيرها.

قال البعض أن بريطانيا لم تكن تتآمر على العرب في فلسطين، وان كل ما حدث ببساطة، هو ان بريطانيا ارادت ان تكافيء اليهودي "حاييم وايزمان" على اختراعه مادة "الاستون" خلال الحرب العالمية الاولى، المادة التي تلزم للصناعات العسكرية. وإن الاسطورة تقول، "أن لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني آنذاك سأل وايزمان"، بماذا يستطيع أن يكافئه"، فأجابه وايزمان "إصنع شيئاً لشعبي"، "فتأثر" أساطين الإمبراطورية وأصدروا الوعد. وهنا ايضا يؤكد حاييم وايزمان مدى إعجاب، "لويد جورج" بالعهد القديم (التوراة)، عندما تحدث عن أحد لقاءاته معه، حيث قال: "وصلت إلى مقر رئيس الوزراء في داوننج ستريت بلندن، وكانت الشوارع مكتظة بالأهالي المهللين، ولما وصلت على لويد جورج وجدته يقرأ في مزامير داود، وعرضت عليه خلاصة مستعجلة لأعمالنا وزياراتنا لبلاد فلسطين". (التجربة والخطأ)، مذكرات حاييم وايزمان.

حتى البحاثة "ميخائيل بار زوهر" يقبل هذا التعليل في كتابه "النبي المسلح" حياة بن غوريون. كمان ان لورد آرثر بلفور برر الوعد، لان اليهود عانوا في اوروبا ودفعوا ثمنا باهظا بسبب العداء للسامية، وبسبب ما ارتكب في حقهم من جرائم وعنصرية وظلم. وان "لويد جورج" احد رؤساء وزراء بريطاني السابقين، قال ايضا في كتابه "الحقيقة حول معاهدات الصلح" عن بعض العوامل والاسباب التي جعلت بريطانيا تصدر وعد بلفور عام 1917م، "الحكومة الالمانية في سنة 1916م كانت تطالب الاتراك العثمانيين بالسماح بهجرة اليهود الى فلسطين، وان المانيا تود ان تستولي على النفوذ في المنظمة الصهيونية العالمية، وان المانيا تحدثت مع وزير الباب العالي السلطاني "طلعت" في إسطنبول".

لكن مهما قيل فان السبب الرئيسي في وعد بلفور هو توظيف المادة البشرية المتمثلة باليهود الصهاينة ومن تبعهم لخدمة النفوذ الغربي التي خصت به بريطانيا نفسها دون غيرها في فلسطين حتى ذلك الوقت، وهو الهدف البعيد الذي اشارت اليه الصحافة البريطانية في تلك الفترة قبل وبعد صدور وعد بلفور. فقد كتبت صحيفة "ساندي كرونيكل" في تلك الفترة، "انه لا يوجد جنس بشري في العالم كله يمكن ان يقوم لنا بهذه الخدمة غير اليهود بانفسهم. فلدينا الالة الصهيونية المحركة التي ستجعل الامبراطورية البريطانية آمنة في تلك المنطقة من العالم". كما ان صحفا اخرى كانت لا تنفك تحذر الحكومة البريطانية خوفا ان تقع فلسطين تحت سيطرة قوة عالمية اخرى تضر بالمصالح البريطانية في المنطقة. نشرت احدى الصحف في ذلك الوقت ايضا، "انه من الضروري قيام حاجز حضاري بين مصر وتركيا، فمصر طامعة في ورائة الخلافة العثمانية، وقد شاهدنا حرب محمد علي باشا والي مصر ضد الخلافة العثمانية وكيف انه كاد ان يسقط الخلافة العثمانية لولى تدخل الحلفاء واعادته الى داخل حدود مصر فقط". وكتبت صحيفة "جلاسكو هيرالد" البريطانية ما معناه، ان الدفاع عن قناة السويس امر ضروري، وان صدور الوعد سيكون له اثر مدوي في العالم خصوصا عند القوى المتنفذة في العالم مثل روسيا وبولونيا والمجر. لهذا فان توطين شعب اخر مرتبط عضويا ببريطانيا سيؤمن قناة السويس هذا الشريان الحيوي الموصل الى المستعمرات البريطانية في الشرق وخصوصا الى الهند. قال احد الكتاب اللامعين اسمه "نورمان بنتويتش" في كتابه "إسرائيل الناهضة" عام 1960م، "لقد ربط حاييم وايزمان الصهيونية بنجم انجلترا، وهو يعتقد ان بناء فلسطين يتوجب ان يكون شراكة بريطانية يهودية".

عام 1919م القى "ماكس نوردو" استاذ هرتزل ونائبه خطابا في احتفال جرى في البرت هول بلندن، حضره كبار الإمبرياليين "لويد جورج" و "اللورد بلفور"، وكان ماكس نوردو قد تخلص من ولائه لالمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الاولى، وربط في خطابه دولاب الصهيونية بالقطار البريطاني قال، "نعرف (أيها السادة) ما تتوقعونه منا. تريدون أن نكون حرس قناة السويس. علينا أن نكون حراس طريقكم إلى الهند عبر الشرق الأدنى. نحن على استعداد لأن نقوم بهذه الخدمة العسكرية ولكن من الضروري تمكيننا من أن نصبح قوة حتى نقدر على القيام بهذه المهمة". ولم يستمع البريطانيون حينذاك الى اعتراضات العرب ولا الى اضرابات الفلسطينيين فقد حالت اصوات مدافع الحرب والبحث عن المنافع دون سماع اصوات العرب الذين كان معظمهم ما زالوا في ارض الاعداء (العثمانية).

"في حزيران/ يونيو 1917م ألقى "مرمادوك بيكثول"، الذي اشتهر فيما بعد بترجمته للقرآن، محاضرة في قاعة "كاكستون" نشرتها فيما بعد الجمعية الإسلامية المركزية في لندن في كراس بعنوان "المصالح الإسلامية في فلسطين"، كان الغرض من تلك المحاضرة كما قال صاحبها، هو إزالة الجهل الخطير المتفشي عندئذ في بريطانيا، ليس بين عامة الناس فحسب بل حتى بين الوزراء، وذلك بشأن ما ينطوي عليه تطبيق الخطة المقترحة من مضامين ومخاطر "بإنشاء دولة يهودية في فلسطين في ظل سيادة إحدى الدول المسيحية"، واشتملت تلك المحاضرة على عرض واف لمكانة فلسطين والقدس في الإسلام وفي التاريخ العربي". قدم نص المحاضرة المطبوعة الى وزارة الخارجية البريطانية كاحتجاج اسلامي على وعد بلفور، فكانت ملاحظات "مارك سايكس" مهندس اتفاقية "سايكس بيكو 1916م"، ان صاحب المحاضرة شخص موالي "لتركيا"، ونسي مارك سايكس أن فلسطين مقدسة لدى أتباع الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، ومن الخطأ الاهتمام بمصالح الديانتين الأوليتين فقط وتجاهل الثالثة.

وحينما عادت الجالية الاسلامية للاحتجاج الى وزير الداخلية البريطاني، وكان قد مضى على صدور وعد بلفور خمسة ايام، لم يكتف وزير الخارجية مارك سايكس بنعت من قدموا العريضة الاولى بالموالاة لتركيا بل وصفهم بالعملاء لتركيا (العدو)، وحض على عدم الاهتمام باحتجاجاتهم. ونفس الشيء حينما تم تجاهل ايضا الاحتجاج الذي وجهه "أمير علي" من مجلس شورى الملك البريطاني في 10 نوفمبر 1917م إلى اللورد هاردينج الوكيل الدائم لوزارة الخارجية ومندوب الملك السابق في الهند، فقد رغب السيد أمير علي أن يسترعي انتباه بلفور إلى واقع، "أن فلسطين هي في نظر المسلمين أرض مقدسة دون أدنى شك"، وأن مدينة القدس لا يفوقها قدسية وطهارة عندهم سوى مكة والمدينة، وبين أن من "الغبن والإجحاف" بالإسلام وضع أحد "أقدس أقداسه" تحت السيطرة اليهودية.

وفور صدور وعد بلفور سارعت دول الغرب، وعلى رأسها "فرنسا" و"إيطاليا" و"أمريكا" بتأييده، بينما كان في مناطق العالم العربي وقع الصاعقة، واختلفت ردود أفعال العرب عليه بين الدهشة والاستنكار والغضب. كانت فرنسا صاحبة أول بيان صدر تأييدًا لتلك المبادرة، فقد أصدر وزير الخارجية الفرنسي بيانا عبر فيه عن الارتياح عن التضامن بين الحكومتين الإنجليزية والفرنسية في قضية إسكان اليهود في فلسطين. وإزاء حالة السخط والغضب التي قابل العرب بها "وعد بلفور" أرسلت "بريطانيا" رسالة إلى "الشريف حسين" إمعانًا في الخداع والتضليل، حملها إليه الكولونيل "باست" تؤكد فيها الحكومة البريطانية أنها لن تسمح بالاستيطان في "فلسطين" إلا بقدر ما يتفق مع مصلحة السكان العرب.

في عام 1918م صادق الرئيس الأمريكي ( ولسون) رسمياً على وعد ( بلفور) وقال "أغتنم الفرصة لأعبر عن الارتياح الذي أحسست به نتيجة تقدم الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة والدول الحليفة منذ إعلان السيد بلفور باسم حكومته عن موافقتها على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ووعْده بأن تبذل الحكومة البريطانية قصارى جهدها لتسهيل تحقيق ذلك الهدف". وبعد ذلك اقر الكنجرس وعد بلفور وفقاً للشروط التي يتضمنها وعد الحكومة البريطانية. ولم يكن هذا فقط بل ان الكنجرس الامريكي (مجلس النواب) اصدر بيانا قال فيه، "حيث أن الشعب اليهودي كان يتطلع لقرون طويلة ويتشوق لإعادة بناء وطنه القديم، وبسبب ما تمخضت عنه الحرب العالمية، ودور اليهود فيها، فيجب أن يُمكّن الشعب اليهودي من إعادة إنشاء، وتنظيم وطن قومي في أرض آبائه"!

في مجلس الشيوخ الأمريكي بعد صدور وعد بلفور، ألقى رئيس لجنة العلاقات الخارجية، خطابا قال فيه، "... إنني لم أحتمل أبداً فكرة وقوع القدس وفلسطين تحت سيطرة المحمديين، إن بقاء القدس وفلسطين المقدسة بالنسبة لليهود، والأرض المقدسة بالنسبة لكل الأمم المسيحية الكبرى في الغرب، في أيدي الأتراك، كان يبدو لي، لسنوات طويلة، وكأنه لطخة في جبين الحضارة، من الواجب إزالتها".

في 11 ديسمبر1917م أي بعد أسابيع فقط من الوعد، دخلت الجيوش البريطانية بقيادة الجنرال اللنبي القدس، وقال عبارته الشهيرة "الآن إنتهت الحروب الصليبية". في مؤتمر فرساي يناير 1919م قدمت الحركة الصهيونية خطة تنفيذ مشروع استيطان فلسطين، ودعت الى اقامة وصاية بريطانية لتنفيذ وعد بلفور. وأن تشمل حدود فلسطين ضواحي صيدا ومنابع الليطاني ونهر الأردن وحوران وشرق الأردن والعقبة وأجزاء من صحراء سيناء المصرية.

في 27 يناير 1919م عقد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول، وقرر رفض تقسيم الشام إلى دويلات، مع إعتبار فلسطين جزء من بلاد الشام وليست دولة مستقلة، كما شكل حكومة وطنية فلسطينية. وفي 02/02/1919م في باريس خلال إنعقاد "مؤتمر الصلح" تخلى الشريف حسين عن فلسطين مقابل إعطائه دولة على الأرض العربية، ووافق على إعتبار فلسطين تحت وضع دولي وليس بالضرورة ان تكون تابعة للدولة العربية الجديدة! وهكذا تم أول تنازل عربي رسمي عن أرض فلسطين! بعد ذلك وجه "فيصل بن الحسين" رسالة إلى الزعيم الصهيوني الأمريكي "فرانك فورتر" يقول فيها: "نحن العرب وخاصة المثقفين منا ننظر برغبة شديدة إلى النهضة الصهيونية، وسوف نعمل كل ما بوسعنا لمساعدة اليهود، ونتمنى لهم وطنا ينزلون فيه على الرحب والسعة!".

في 31 مايو 1920م صدر إعلان الانتداب على فلسطين في مؤتمر "سان ريمو" وعين البريطاني الصهيوني "هربرت صموئيل" مندوباً سامياً في القدس، وكان وزيراً للداخلية البريطانية ومتعاطفاً مع الصهاينة. وبعد ثلاثة أيام فقط من إعلان صك انتداب بريطانيا على فلسطين، كشفت بريطانيا عن مضمون وعد بلفور، واحتج الفلسطينيون وحدثت اشتباكات لأول مرة بين الحرس البريطاني والعرب. وبعد أن أصبح "ونستون تشرشل" وزيراً للمستعمرات عقد مؤتمراً في القاهرة للعسكريين والموظفين البريطانيين، وذلك لمراجعة الوضع البريطاني في المنطقة، وأوصى المؤتمر بالاستمرار في تنفيذ وعد بلفور، وان تشكل في شرق الاردن إمارة عربية بقيادة الأمير عبدالله يكون مسؤولاً عنها أمام المندوب البريطاني دون أن تكون المقاطعة مشمولة في النظام الإداري لفلسطين، ودون أن تنطبق عليها شروط الانتداب. وليكون شرق الاردن مستعداً لاستقبال من يضطر من الفلسطينيين للمغادرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق