خارج البرواز
ذات تعاسة، ذهب أحد البائسين إلى عيادة طبيب نفسي يدعى جون أبيرنيثي، وحين
استقر به المقام بين يدي الرجل، أخذ يحكي تفاصيله المرعبة التي أصابت
الطبيب الشهير بإحباط مماثل. وحين انتهى الرجل من قصصه المفجعة، نظر الطبيب
في عينيه البائستين وقال في صوت متهدج: "يؤسفني يا صديقي أن لا تجد مبتغاك
عندي. لكنني أنصحك بالجلوس إلى جريمالدي. إنه كوميديان رائع، ولسوف تنسى
بين يديه ما يستبد بروحك المرهفة من آلام." وما إن تلفظ الطبيب باسم
جريمالدي حتى انتفض الرجل كما ينتفض العصفور تحت قطر مباغت، ووقف على قدمين
من تعاسة ليقول لأبيرنيثي: "أنا جريمالدي يا سيدي."
ما الذي يستطيع
جريمالدي أن يفعله إزاء واقع يزداد كلاحة كل يوم، وكيف يغير ملامح أفق تشرب
بالسواد من الإشراقة إلى الشفق، وكيف تصمد روحه المرحة ونكاته القديمة
أمام بؤس تتغير ملامحه في اليوم آلاف المرات؟ فهاهو الكوميديان البائس يقف
أمام ملامحه القديمة كل صباح ليشهد تجاعيد جديدة تشقق بشرته الناعمة وتهزم
فيه روح التفاؤل التي عرفه بها التاريخ القديم والحديث.
لطالما سخر
جريمالدي من فقره ودمامته، ووقف على خشبة المسرح كطارد أرواح ليطارد البؤس
واليأس في قلوب الواقفين حول منصته العاجية. اليوم يبكي جريمالدي كما يبكي
الصغار دون أن يجد كوميديانا طيبا يمسح بروح النكتة ما تسرب إلى روحه من
ألم. ويذهب إلى طبيب معالج فيعيده إلى ذاته المقفرة ليعلن إفلاس الحياة من
ينابيع السعادة التي لطالما تفجرت ضحكات بيضاء حول قدميه الراقصتين.
نسي جريمالدي في زحمة الفجائع المتتالية وجهه القديم وإيمانه برياح الشمال
التي حملت ذات ربيع بشارة بموسم جديد لرعي الأحلام وتفتح الآمال في
أكمامها. اليوم، يقف الكوميديان الكهل أمام صورة وطن بلا بيارق وبلا ملامح،
فيه يتهارج المهرجون على خشبة آيلة للسقوط دون أن ينظر أحدهم موطيء قدمه،
ويرى نفسه تماما خارج البرواز، وكأنه لم ينتم يوما لطين البلاد وغيثها.
مسكين أيها الجريمالدي التعس، فقد أنستك طيبتك ورخاوة تفاصيلك ملامحك
القديمة، واكتفيت بدور مهرج بائس على خشبة أحزان هائلة ليسقط ربيع عمرك مع
بعض أحلام طوباوية بالعيش والحرية والكرامة في بئر الواقع المؤسف. وبعد أن
بلغت من العمر عتيا، وخط الشيب في مفرقيك طريقا نحو النهاية، ترى آثار
أحلامك الطفولية وقد طمستها الأقدام الغبية والريح الهمجية ومخالب
الكراهية، وكأنك يوما لم تكن، ولم تكن الشوارع تردد ضحكاتك الحالمة ليل
نهار.
من حقك أيها الواقف خارج برواز وطن لطالما عشقته أن تحزن، وأن
تثور، وأن تغضب حين ترى صروح رمالك تتهاوى كذرات رمال عابثة فوق شاطئ لا
يهدأ موجه لتذهب أدراج الخيبة. وتخفي في نفسك ما لا تبديه لجوقة المتفرجين
السفلة الذين لا يهتمون لملامحك التي تتغضن تحت دقات أقدامهم الكاذبة في
ميادين الخيانة. تعلم أيها القادم من أعماق الطهر القديم أنك ستقف فوق تلال
تاريخك المكوم كبيت هرم فوق رقعة الجغرافيا ذات يوم لتبكي كما لم يبك طفل
في ريعان حزنه، ولهذا تزداد مع الحكمة بؤسا وتعاسة.
قدرك أن تحمل أكداس
الحزن المقدس فوق رأسك وتطوف بلادا لطالما أغريت أهلها بالضحك وهم على شفا
حفرة من الحزن. كنت حبوب هلوسة تقدم للفقراء العاجزين في مواسم الأحزان
ومواسم البيع ومواسم التقسيم، وكنت شاهدا على كتابة تاريخ لم يقع إلا في
أذهان الحالمين والخونة، وكتمت صرختك آمادا بعيدة لتزرع في جثتها الصامدة
آلاف الضحكات الباهتة.
ليتك صرخت في الناس لتخرجهم من تفاهة أحلامهم
إلى واقع غير مشرف ليرمموا ما تبقى في جدرانه من صلابه، لكنك آثرت أن توزع
ضحكات بلهاء على شفاه مشققة دامية لتخرجها من دمامة الحزن إلى واحة أمل.
لكنك كنت يسوعا كاذبا تبشر بالخير وأنت ترى بعيني زرقاء يمامة حشود الخوارج
خلف الجبل. وجب أن تحزن اليوم أيها القديس المفتعل لتخرج من تفاصيلك
الكاذبة إلى الحقيقة المرعبة وتعيش كما كنت دوما خارج إطار الصورة البائسة.
مسكين أيها الجريمالدي!
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق