صنف تسد
استطاع روبرتو مارينو أن يقفز فوق عتبات الشهرة بسرعة مغامر، وأن يصل إلى رأس الهرم الإعلامي في البرازيل في سنوات معدودات، كي يتحول من محرر تحت التمرين في إحدى الجرائد المغمورة إلى طاغوت يُشار له في مجال الميديا بأصابع الكبار. كما استطاع مارينو أن يحول قناة أو جلوبو الخاصة إلى أسطول من القنوات الفضائية ذائعة الصيت مكنته من غزو أكثر من ثمانين دولة ببرامجه الهادفة. لكن يؤخذ على مارينو تصنيفه المستفز لأبناء وطنه إلى أخيار وأشرار كما يفعل الطغاة المستبدون في عالم الفنتازيا السياسية.
بيد أن الرجل كان أكثر ديمقراطية من بعض النظم العربية المعاصرة، إذ كان يسمح للواقفين على خشبة الوطن بحرية الحركة ليبدلوا ثيابهم وأدوارهم في كوميديا التقسيم، ليصبح الأشرار أخيارا بقدرة مصور أو حرفية ماكيير أو العكس. وكان غاية ما يرجوه الراقصون حول زيوس البرازيل أن يقفوا عن يمينه ليكونوا ملح الوطن وزيت قنديله.
وكان مارينو يحرم على فريق عمله ما يستبيحه لنفسه، فيمنعهم من مصافحة الشيوعيين “الأنجاس” حتى وإن كانوا من الحزب الحاكم، لينفرد هو بتقبيل أياديهم ونواصيهم في الغرف المغلقة. ولأسباب وطنية “شريفة” لا يعلمها إلا القديس مارينو، ضاجع حكام البرازيل الفاشيين إعلامه النزيه لمدة تربو على العشرين عاما في جهاد نكاح وجد من ينظر له ويفتي بحله. وهكذا تضخمت ثروة القديس مارينو من اتجاره بالوهم حتى أصبح أحد أثرياء العالم “الحر” وقطبا من أقطاب الفكر المعاصر.
كما تمكنت سلسلة قنوات أو جلوبو التي تقدم وجبات من الأطعمة الفكرية الفاسدة أن تتبوأ المركز الثالث إعلاميا في فضائنا الهلامي المستباح. وعلى خطا مارينو سار بوش، فقسم العالم جغرافيا إلى موالين ومناوئين، وفكريا إلى إرهابيين ومسالمين. كما سارت على دربه كثير من التنظيمات الإسلامية المستبدة، فحملت كمسيخ غير منتظر جنة الخلد بيمينها ووضعت سقر بشمالها وانشغلت بتقسيم الناس وتصنيفهم، كما انشغل أهل الفكر بنظرية مارينو الفاشية حتى صاروا إحدى مسلماتها الكاذبة، وبدعوى التقدمية وحقوق الإنسان سطوا على حقوق معارضيهم ظلما وبغيا وعلوا، وهو ما برر ضمنيا حالة التردي المشينة التي فرضتها النظم الاستبدادية القديمة ومهد لوأد ثورات كادت أن تصبح ربيعية في أجوائنا الخريفية الباهتة.
أما المشاهد البائس، فليس له من الأمر شيء، لأنه في عقيدة الإعلاميين الفاسدين رأس مفرغة قابلة للاحتلال والتقسيم والتصنيف والتقزيم، وما عليه إلا أن يقدم لجهات الإعلام المختصة صكا بالبرءة من الفكر المغاير حتى يكون له موطئ قدم في بلاد تتشظى كل يوم آلاف المرات، وحتى يضمن لنفسه قبرا مريحا في واقع فكري بليد ومستنقع عقائدي فاسد. وعليه أن يراقب اتجاهات الإعلاميين المتغيرة كل صباح ليكون دوما على يمين منصاتهم الفارهة.
ولسوف يستمر مارينو في نشر سمومه الإعلامية وغسل أمواله القذرة في جماجم المشاهدين الخاوية لأنه الأقدر على اقتحام حصون بيوتهم المغلقة والعبث بمحتوياتهم القديمة وبعثرة العقائد والمفاهيم ونظمها في أطر فكرية ملونة تتغير بتغير الأنظمة ورياح الميادين. ولسوف يستمر التقسيم والتصنيف على أساس العقائد والأفكار والمذاهب ما استمر عجز النخب الفكرية المهين عن الوصول إلى عقول المشاهدين “الطيبين” الذين ينتظرون دورهم عن يمين مورينو أو يساره.
وحتما ستكون أيها المشاهد البائس معتدلا أو متطرفا، يمينيا أو يساريا، كافرا أو مؤمنا، رجعيا أو تقدميا، متدينا أو ملحدا، وطنيا أو ممولا، ربعاويا أو متمردا حسب موقفك من أباطرة الإعلام والمال الفاسد. ولن يكون الخيار لك إلا إذا رضيت بدور كومبارس تافة في مسرحية التقسيم الهزلية، فتغير قصة شعرك ولون حاجبيك وطريقة مشيتك. ففي مناخنا الثقافي الفاسد، لا تملك أن تكون أنت، ولا تستطيع أن تكون سواك. وهكذا يحولك الروبرتيون الفاسدون إلى مهرج تعس في سيرك قذر، لتخلع كل يوم ملامحك وتتحول إلى مسخ بليد يقف في طابور الباحثين عن أي دور من أجل أي لقمة عيش في سلة مهملاتهم القذرة، لتنسى شعارات ميدانك القديمة من عيش وحرية وكرامة.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق