الحرية لإيرفين أبو دراع
أن تحمل قلما أو قرطاسا في ميدان حرب، سواء كانت أهلية أو غير أهلية، مخاطرة غير محسوبة، فحامل الكاميرا وسط فوضى النزاعات دوما متهم وإن كان لا يريد إلا الإصلاح ما استطاع. غير أن المحظور لا يمنع بعض الخارجين على قانون الرعب من المغامرة بأعناقهم دفاعا عما يرون أنه الحق. وفي ميادين النزال، يخرج بعض المراسلين وقد ربطوا راية حمراء حول رؤوسهم متأبطين حزمة أوراق وبعض الأسئلة، شاهرين أقلامهم في وجوه حاملي البنادق ذوي الكعوب المستطرقة.
كان إيرفين كوب واحدا ممن دفعهم الفضول لركوب تاكسي المغامرة، فذهب إلى حتفه بظلفه إلى مركز قيادة الجيش في بلجيكا ذات جرأة، وهناك ألقي القبض عليه هو ورفاقه، وقادهم الجنود الألمان إلى غرف الاستجواب. ولما كثرت الأسئلة، وبهتت الملامح وعز الأمل في خروج آمن، صرخ إيرفين في وجه أحد المحققين: "لا أهتم إن كنتم قررتم إعدامنا أو احتجازنا لأجل غير معلوم. لكن لي طلب واحد." رد الضابط الألماني ببرود وقد أسند ظهره وقدمه اليسرى إلى حائط قريب: "ما هو؟" قال إيرفين: "أن تأمر سائق التاكسي بإيقاف العداد حالا."
حتما سيدفع أحد فاتورة احتجاز إيرفين ورفاقه ذات حساب لأن الرجل لم يخرج غازيا ولم يقبض عليه متلبسا بحجارة رصيف أو زجاجة مولوتوف أو بعض المنشورات التي تحرض فريقا على فريق. لعله كان يكره الألمان وينحاز لأنات اللاعقين لجروحهم تحت سنابك الخيل المغيرة، لكنه لم يحمل في بنيانه الهش أبدا مؤهلات مقاتل. صحيح أنه متمرس على إطلاق الرصاص، لكن رصاص القلم الذي تحده السطور المستقيمة كالقضبان غير حي ولا يصمد طويلا أمام الرصاص الطائش والخراطيش الموجهة نحو العيون والصدور المكشوفة. ونتيجة الحرب بين القلم والسيف حسمها أبو تمام منذ أزل حين قال: "السيف أصدق إنباء من الكتب."
كان إيرفين يعرف تلك المعادلة تماما حين خرج إلى ساحات حرب كانت الأولى، لكنها لم ولن تكون الأخيرة في تاريخ هذا العالم المليء بالمظالم، ولهذا استسلم بكل بساطة لقبضات الألمان اليابسة حين اقتادوه من قفاه كمجرم محترف وألقوه على كرسي خشبي متآكل في غرفة معزولة تحت ضوء باهت يتأرجح فوق رأسه يمنة ويسرة كل نَفَس. لكن ظل المحققين كان يتطاول أمام عينيه الزائغتين كلما تنقلوا من ركن إلى آخر. لم يعترض إيرفين على معاملاتهم غير الإنسانية، ولم يحاول القيام من مقامه أو البصق فوق ملامحهم الباردة لأنه قد أعد نفسه طويلا لتلكم الجلسة المهينة بين الأقدام الغليظة، بيد أنه كان يصاب بدوار كلما تكررت الأسئلة والملامح ودقات الأحذية الثقيلة في أرجاء الغرفة الضيقة.
كان هم إيرفين أن ينزل إلى بئر الحقائق ليأتي بزيت قنديل يبصر زينب بما خفي عليها من تفاصيل لتكتمل الصورة أمام عينيها الذابلتين، وليخرج قومه من ظلمات الشك إلى بعض اليقين عن حقائق صراع هم بعيدون عنه بعد المشرقين قريبون منهم قرب العدسات اللاصقة. كان يريد أن يكشف لهم ما وراء تلال الأكاذيب التي اصطنعتها الكاميرات الموجهة والمال الفاسد، لكنه كان لسوء طالعه على موعد مع الألمان الذين يظنون كل صيحة عليهم.
ولا يزال إيرفين يجلس منذ حرب عالمية أولى القرفصاء رهين محبسين في زاوية مهملة من سجون الرأي في عالم لا يحترم إلا السيف ولا يعترف بالرصاص الذي يسيل فوق كبد الأوراق بالحقائق المجردة. لا يزال الأسير يحمل قلب مغامر وطموح حالم ورغبة مستعرة في عالم حر لا يعاقب فيه الرصاص بالرصاص، ولا يهتم كثيرا إن ساد الإسبرطيون أو انتصر الأثينيون، لأنه لا يهتم إلا بكتابة التاريخ عاريا كما سقط من رحم الأحداث، ولا يريد إلا رسم خرائط صادقة أمام أجيال لم يترك لها الإعلام الفاسد إلا الأكاذيب المنمقة.
مسكين إيرفين الذي ظن بالعالم الحر خيرا، فخرج في سيارة أجرة غير مصفحة ليحارب طواحين الأحلام في ميادين القتال المكشوفة. وبائس كل إيرفين يدافع عن الرأي الآخر في عالم لا يكتب التاريخ إلا تحت أقدام الغزاة. وتعسة تلك الأجيال التي ستدفع حتما فاتورة احتجاز رجل خرج إلى عراء السياسة بقلم وقرطاس، فلم يعد من هناك ولم يبك عليه أحد. أما الطغاة الذين يكتبون التاريخ بأيديهم ثم يقولون هو من صنع الأحداث، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق