تمثال البرونز - منتديات غزل وحنين
تمثال البرونز
وسط غابات من الأحقاد وتلال من الكراهية، قرر المسيح أن يقف منتصبا على قاعدة من برونز متحديا أن تسقط القيم في وحل الخلافات المذهبية والطائفية التي تكتسح المجتمع السوري كنار الهشيم. فوق قمة شيروبيم، وضع المسيح قدميه المصلوبتين فوق غابة من حزن تخبئ شمس الحرية والكرامة والإنسانية عن أرض الشام وأهلها، ليشير بيدين من نحاس إلى طريق حج كان الحجاج يتخذونه قديما بين القسطنطينية والقدس، وكأنه يقرب عواصم الخلاف بيديه الرحيمتين ليحيى ما في قلوب أصحاب الرسالات من يباب.
وكما أشار بإصبعه ذات ضلال لخراف بني إسرائيل فوق مرتفعات الناصرة، وقف المسيح ليرسم ذات الخط لأصحاب بيت عقائدي كلما اكتمل هدموه. وبارتفاع لا يكاد يتجاوز الثلاثين مترا فوق شئوننا الصغيرة وخلافاتنا التافهة ، ورائحة الدماء والخوف التي تشكل خرائط التقسيم والمحو التي بدأت تتجذر في وجه الخرائط، يؤكد المسيح أن لا مخرج من بئر الخوف المعطلة إلا بعقيدة صحيحة تمنح أبناء الملل والنحل والعقائد المختلفة مسارا متوازيا فوق أديم الواقع السوري المتأزم.
لن ينتصر فريق على فريق في أرض الشام إلا بالتقوى والعمل الصالح إذن، ولن يطرح أحد المتبارين خصمه أرضا لتضع الحرب أوزارها فوق نهر من الدماء لم يجف، والحل الوحيد لأزمة العنف هناك أن نترك تعاليم المسيح تحط فوق صدورنا اليابسة، وأن نترك مساحة كافية لمحمد وصحبه كي يتجولوا في أوردتنا وشراييننا الجافة لنرتوي بإيمان لا يعرف الكراهية ولا النبذ ولا الإقصاء ولا القتل في الدين. الحل أن نغلق ملفات مقتل الحسين ودفاتر سيئات معاوية وننطلق نحو مستقبل لا تشده الجذور نحو أسفل بئر الخلاف.
إنهم يغذون فينا العصبية وينثرون في الأرض بذور الحقد، ويتلذذون بالنظر إلينا ونحن نتقاتل ونتهارج كحمر البرية، بينما هم يعدون شفراتهم لذبح من تبقى من إخوة كرامازوف حين تسقط كل الرايات وتستعد الرُسُغ للكلابيب خلف الظهور المحتية. كيف يرتفع تمثال المسيح على أرض سوريا ولا ترتفع راية واحدة تدعو إلى إصلاح ذات البين ووأد بذور الفتن في مكامنها؟ وكيف يظلنا موسم الهجرة المحمدية، وقد هجرنا ما أمر الله به، وبدلنا ديننا وعقائدنا تبديلا، وتحولنا من رسل ديانة سمحة إلى رسل خراب وأبواق لا تأتي بخير؟
شكرا للسيد سمير الغضبان الذي أشرف على بناء تمثال البرونز الذي كبده وفريق عمله ثمانية أعوام من العمل الدؤوب، وشكرا لكل الإبرشيات والكنائس والزعماء الذين ساهموا بأموالهم في رفع تمثال المسيح فوق خرائبنا العقائدية، وشكرا لمن تذكر آثار أقدام محمد وصاحبه في رحلة الخوف من مكة إلى المدينة هربا بالدين، فأقام المآدب وحلق الذكر وأعد وجهز لكلمات وعظ لم تعد تؤتي أكلها إلا في أنفس القلة من أتباع الرسل. لكني أكاد أزعم أن المسيح الحي وأخاه محمدا غير راضين عنا وإن كثرت النصب والاحتفالات والموالد، لأن شغلهم الشاغل ضياع العقائد وانحرافها وتحلل القيم وزوالها وليس حجم التماثيل وأوزانها. ما يهم موسى وعيسى والأنبياء من قبلهم أن يسلم المرء قلبه لله، وأن يسلم الناس من يده ولسانه، لا أن يخرج الناس على الناس بالحديد والرصاص، ليخرجوهم من أرضهم وديارهم بغير حق ويفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، فالله لا يحب الفساد.
ما أسوأ أن تموت فينا الروح، فنحاول بعثها بالقرميد والنحاس والبرونز! وما أبأسنا من تابعين نوقف رشاشات الكراهية وطوفان الرصاص ثلاثة أيام حقنا لدماء تمثال من نحاس ولا نرعي في دماء الأبرياء الذين يتساقطون فوق الطرقات كأسراب الجراد المهاجر إلا ولا ذمة، ثم نحتفل تحت قدمي نصب لا يحيي ولا يميت ولا يضر ولا ينفع ظانين ظن السوء أن هذا النصب يقربنا إلى الله زلفى أو يعجل بالخلاص مما نحن فيه من ويلات!
من أرمينيا إلى سوريا مرورا بلبنان، استطاع مشيدو تمثال البرونز أن يحملوا النصب الثقيل فوق الرافعات ليشير بيديه الباردتين نحو طريق حج قديم في إشارة إلى ما نسيناه من تعاليم وما تغافلنا عنه من قيم وثوابت، لكننا رضينا بالدنية من تمثالنا ووقفنا تحت قدميه بنفس البلاهة والملامح الباهتة مشغولين بحشو ما تبقى في جيوبنا من رصاص لننكل بكل من خالف المسيح أو عادى محمدا. والحقيقة أننا نحن الأعداء، لأننا كنا مجرد تماثيل رخيصة تجسد دينا قيما لا ترى فيه عوجا ولا أمتا. العوج فينا إذن وليس في التماثيل التي نحملها فوق ظهورنا كحمر مستنفرة تحمل أسفارا.
عبر تمثال البرونز إلى سوريا، واستطاع أن يتخلل صفوف المجاهدين وبرك الدماء ليقف شاهدا على بلاهة عباد التماثيل الذين لم يروا لهم من هول الأحداث مخلصا إلا النحاس والرصاص. وحلت فينا ذكرى الهجرة المحمدية الشريفة، فلم نهجر بلادتنا المتوارثة، ولم نخلع عقول الطين التي حشونا بها جماجمنا الصلبة، ولم نفكر لحظة في هجر ما نهى الله عنه من قتل وسحل وترويع وسفك دماء. سيقول الناس، شغلتنا أموالنا وأهلونا الذين سفكت دماؤهم ووزعت أشلاؤهم على نصب الكراهية عن الحق، وشغلتنا شحنات الأسلحة الوافدة والبيارق الملونة عن التفكير في حرمة النفس التي حرم الله، لكنهم في النهاية سينصرفون عنك لوضع مزيد من الذخيرة في بطون مدافعم الخاوية والرقص تحت أقدام تماثيل البرونز.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
تمثال البرونز
وسط غابات من الأحقاد وتلال من الكراهية، قرر المسيح أن يقف منتصبا على قاعدة من برونز متحديا أن تسقط القيم في وحل الخلافات المذهبية والطائفية التي تكتسح المجتمع السوري كنار الهشيم. فوق قمة شيروبيم، وضع المسيح قدميه المصلوبتين فوق غابة من حزن تخبئ شمس الحرية والكرامة والإنسانية عن أرض الشام وأهلها، ليشير بيدين من نحاس إلى طريق حج كان الحجاج يتخذونه قديما بين القسطنطينية والقدس، وكأنه يقرب عواصم الخلاف بيديه الرحيمتين ليحيى ما في قلوب أصحاب الرسالات من يباب.
وكما أشار بإصبعه ذات ضلال لخراف بني إسرائيل فوق مرتفعات الناصرة، وقف المسيح ليرسم ذات الخط لأصحاب بيت عقائدي كلما اكتمل هدموه. وبارتفاع لا يكاد يتجاوز الثلاثين مترا فوق شئوننا الصغيرة وخلافاتنا التافهة ، ورائحة الدماء والخوف التي تشكل خرائط التقسيم والمحو التي بدأت تتجذر في وجه الخرائط، يؤكد المسيح أن لا مخرج من بئر الخوف المعطلة إلا بعقيدة صحيحة تمنح أبناء الملل والنحل والعقائد المختلفة مسارا متوازيا فوق أديم الواقع السوري المتأزم.
لن ينتصر فريق على فريق في أرض الشام إلا بالتقوى والعمل الصالح إذن، ولن يطرح أحد المتبارين خصمه أرضا لتضع الحرب أوزارها فوق نهر من الدماء لم يجف، والحل الوحيد لأزمة العنف هناك أن نترك تعاليم المسيح تحط فوق صدورنا اليابسة، وأن نترك مساحة كافية لمحمد وصحبه كي يتجولوا في أوردتنا وشراييننا الجافة لنرتوي بإيمان لا يعرف الكراهية ولا النبذ ولا الإقصاء ولا القتل في الدين. الحل أن نغلق ملفات مقتل الحسين ودفاتر سيئات معاوية وننطلق نحو مستقبل لا تشده الجذور نحو أسفل بئر الخلاف.
إنهم يغذون فينا العصبية وينثرون في الأرض بذور الحقد، ويتلذذون بالنظر إلينا ونحن نتقاتل ونتهارج كحمر البرية، بينما هم يعدون شفراتهم لذبح من تبقى من إخوة كرامازوف حين تسقط كل الرايات وتستعد الرُسُغ للكلابيب خلف الظهور المحتية. كيف يرتفع تمثال المسيح على أرض سوريا ولا ترتفع راية واحدة تدعو إلى إصلاح ذات البين ووأد بذور الفتن في مكامنها؟ وكيف يظلنا موسم الهجرة المحمدية، وقد هجرنا ما أمر الله به، وبدلنا ديننا وعقائدنا تبديلا، وتحولنا من رسل ديانة سمحة إلى رسل خراب وأبواق لا تأتي بخير؟
شكرا للسيد سمير الغضبان الذي أشرف على بناء تمثال البرونز الذي كبده وفريق عمله ثمانية أعوام من العمل الدؤوب، وشكرا لكل الإبرشيات والكنائس والزعماء الذين ساهموا بأموالهم في رفع تمثال المسيح فوق خرائبنا العقائدية، وشكرا لمن تذكر آثار أقدام محمد وصاحبه في رحلة الخوف من مكة إلى المدينة هربا بالدين، فأقام المآدب وحلق الذكر وأعد وجهز لكلمات وعظ لم تعد تؤتي أكلها إلا في أنفس القلة من أتباع الرسل. لكني أكاد أزعم أن المسيح الحي وأخاه محمدا غير راضين عنا وإن كثرت النصب والاحتفالات والموالد، لأن شغلهم الشاغل ضياع العقائد وانحرافها وتحلل القيم وزوالها وليس حجم التماثيل وأوزانها. ما يهم موسى وعيسى والأنبياء من قبلهم أن يسلم المرء قلبه لله، وأن يسلم الناس من يده ولسانه، لا أن يخرج الناس على الناس بالحديد والرصاص، ليخرجوهم من أرضهم وديارهم بغير حق ويفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، فالله لا يحب الفساد.
ما أسوأ أن تموت فينا الروح، فنحاول بعثها بالقرميد والنحاس والبرونز! وما أبأسنا من تابعين نوقف رشاشات الكراهية وطوفان الرصاص ثلاثة أيام حقنا لدماء تمثال من نحاس ولا نرعي في دماء الأبرياء الذين يتساقطون فوق الطرقات كأسراب الجراد المهاجر إلا ولا ذمة، ثم نحتفل تحت قدمي نصب لا يحيي ولا يميت ولا يضر ولا ينفع ظانين ظن السوء أن هذا النصب يقربنا إلى الله زلفى أو يعجل بالخلاص مما نحن فيه من ويلات!
من أرمينيا إلى سوريا مرورا بلبنان، استطاع مشيدو تمثال البرونز أن يحملوا النصب الثقيل فوق الرافعات ليشير بيديه الباردتين نحو طريق حج قديم في إشارة إلى ما نسيناه من تعاليم وما تغافلنا عنه من قيم وثوابت، لكننا رضينا بالدنية من تمثالنا ووقفنا تحت قدميه بنفس البلاهة والملامح الباهتة مشغولين بحشو ما تبقى في جيوبنا من رصاص لننكل بكل من خالف المسيح أو عادى محمدا. والحقيقة أننا نحن الأعداء، لأننا كنا مجرد تماثيل رخيصة تجسد دينا قيما لا ترى فيه عوجا ولا أمتا. العوج فينا إذن وليس في التماثيل التي نحملها فوق ظهورنا كحمر مستنفرة تحمل أسفارا.
عبر تمثال البرونز إلى سوريا، واستطاع أن يتخلل صفوف المجاهدين وبرك الدماء ليقف شاهدا على بلاهة عباد التماثيل الذين لم يروا لهم من هول الأحداث مخلصا إلا النحاس والرصاص. وحلت فينا ذكرى الهجرة المحمدية الشريفة، فلم نهجر بلادتنا المتوارثة، ولم نخلع عقول الطين التي حشونا بها جماجمنا الصلبة، ولم نفكر لحظة في هجر ما نهى الله عنه من قتل وسحل وترويع وسفك دماء. سيقول الناس، شغلتنا أموالنا وأهلونا الذين سفكت دماؤهم ووزعت أشلاؤهم على نصب الكراهية عن الحق، وشغلتنا شحنات الأسلحة الوافدة والبيارق الملونة عن التفكير في حرمة النفس التي حرم الله، لكنهم في النهاية سينصرفون عنك لوضع مزيد من الذخيرة في بطون مدافعم الخاوية والرقص تحت أقدام تماثيل البرونز.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق