الناصية
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ
وصف القرآن الناصية بأنها كاذبة خاطئة كما قال تعالى: ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16)﴾ (العلق:16).
والناصية لا تنطق فكيف يسند إليها الكذب ؟ ولا تجترح الخطايا فكيف تسند إليها الخطيئة؟
لقد أزال البروفيسور محمد يوسف سكر عني هذه الحيرةعندما كان يحدثني عن وظائف المخ فقال: إن وظيفة الجزء من المخ الذي يقع في ناصية الإنسان هي توجيه سلوك الإنسان فقلت له: وجدتها !
قال: ماذا وجدت ؟
قلت: وجدت تفسير قوله تعالى: ﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾
فقال: دعني أراجع كتبي ومراجعي.
وبعد مراجعته لتلك الكتب والمراجع، أكد الأمر وقال: إن الإنسان إذا أراد أن يكذب فإن القرار يتخذ في الفص الجبهي للمخ الذي هو جبهة الإنسان وناصيته، وإذا أراد الخطيئة فإن القرار كذلك يتخذ في الناصية.
ثم عرضت الموضوع على عددٍ من العلماء المتخصصين، منهم البرفسور كيث إل مور الذي أكد أن الناصية هي المسئولة عن المقايسات العليا وتوجيه سلوك الإنسان، وما الجوارح إلا جنود تنفذ هذه القرارات التي تتخذ في الناصية؛ لذلك فالقانون في بعض الولايات الأمريكية يجعل عقوبة كبار المجرمين الذي يرهقون أجهزة الشرطة هي استئصال الجزء الأمامي من المخ (الناصية)، (لأنه مركز القيادة والتوجيه) ليصبح المجرم بعد ذلك كطفلٍ وديع يستقبل الأوامر من أي شخص.
وبدراسة التركيب التشريحي لمنطقة أعلى الجبهة وجد أنها تتكون من أحد عظام الجمجمة المسمى العظم الجبهي، ويقوم هذا العظم بحماية أحد فصوص المخ والمسمى الفص الأمامي أو الفص الجبهي، وهو يحتوي على عدة مراكز عصبية تختلف فيما بينها من حيث الموقع والوظيفة.
وتمثل القشرة الأمامية الجبهية الجزء الأكبر من الفص الجبهي للمخ، وترتبط وظيفة القشرة الأمامية الجبهية بتكوين شخصية الفرد، وتعتبر مركزاً علوياً من مراكز التركيز والتفكير والذاكرة، وتؤدي دوراً منتظماً لعمق إحساس الفرد بالمشاعر، ولها تأثير في تحديد المبادأة والتمييز.
وتقع القشرة مباشرة خلف الجبهة أي أنها تختفي في عمق الناصية، وبذلك تكون القشرة الأمامية الجبهية هي الموجه لبعض تصرفات الإنسان التي تنم عن شخصيته مثل الصدق والكذب والصواب والخطأ… الخ، وهي التي تميز بين هذه الصفات وبعضها البعض وهي التي تحث الإنسان على المبادأة سواءً بالخير أو بالشر.
وعندما قدم البرفسور كيث إل مور البحث المشترك بيني وبينه حول الإعجاز العلمي في الناصية، في مؤتمر دولي عقد في القاهرة، لم يكتف بالحديث عن وظيفة الفص الجبهي في المخ (الناصية)عند الإنسان، بل تطرق إلى بيان وظيفة الناصية في مخاخ الحيوانات المختلفة، وقدم صورا للفصوص الجبهية في عدد من الحيوانات قائلاً: إن دراسة التشريح المقارن لمخاخ الإنسان والحيوان تدل على تشابه في وظيفة الناصية، فالناصية هي مركز القيادة والتوجيه عند الإنسان وكذلك عند كل الحيوانات ذوات المخ، فلفت قوله ذلك انتباهي إلى قوله تعالى: ﴿… مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)﴾ (هود:56) وتذكرت أيضاً بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الناصية كقوله: (اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ…)
وكقوله: (أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ)
وكقوله: (الْخَيْلُ معقود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
فإذا جمعنا معاني هذه النصوص نستنتج أن الناصية هي مركز القيادة والتوجيه لسلوك الإنسان، وكذا سلوك الحيوان.
المعاني اللغوية للآية وأقوال المفسرين:
قال تعالى﴿كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَ بِالنَّاصِيَةِ(15)نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16)﴾(العلق:15-16).
السفع: هو القبض والجذب، وقيل هو مأخوذ من سفع النار، والشمس إذا غيرت وجهه إلى السواد.
الناصية: هي مقدم الرأس.
أقوال المفسرين: ذهب جمهور المفسرين إلى تأويل الآية بأن وصف الناصية بالكذب والخطيئة ليس وصفاً لها بل هو وصف لصاحبها، وأمرها الباقون كما هي بدون تأويل مثل الحافظ ابن كثير.
ويتضح من أقوال المفسرين رحمهم الله عدم علمهم بأن الناصية هي مركز اتخاذ القرار بالكذب أو الخطيئة، فحملهم ذلك على تأويلها بعيداً عن ظاهر النص، فالنص يصفها بالكذب والخطيئة، وهم أولوا وصفها بذلك، فجعلوه وصفاً لصاحبها، فأولوا الصفة والموصوف في قوله تعالى: ﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾ كما لو كانت مضافاً ومضاف إليه، والفرق واضح في اللغة بين الصفة والموصوف والمضاف والمضاف إليه.
وأمرّ آخرون من المفسرين الآية كما هي، دون أن يقحموا أنفسهم فيما لا تطيقه معارفهم وعلومهم في ذلك الزمان.
أوجه الإعجاز العلمي:
* يقول البرفسور كيث إل مور مستدلاً على هذه المعجزة العلمية: إن المعلومات التي نعرفها عن وظيفة المخ لم تذكر طوال التاريخ، ولا نجد في كتب الطب عنها شيئاً، فلو جئنا بكتب الطب كلها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده بقرون لن نجد ذكراً لوظيفة الفص الجبهي الأمامي (الناصية) ولن نجد له بياناً، ولم يأت الحديث عنه إلا في هذا الكتاب (القرآن الكريم)، مما يدل على أن هذا من علم الله جل وعلا الذي أحاط بكل شئ علماً، ويشهد بأن محمداً رسول الله.
• ولقد كانت بداية معرفة الناس بوظيفة الفص الأمامي الجبهي في عام 1842م، حين أصيب أحد عمال السكك الحديد في أمريكا بقضيب اخترق جبهته، فأثر ذلك في سلوكه ولم يضر بقية وظائف الجسم، فبدأت معرفة الأطباء بوظيفة الفص الجبهي للمخ، وعلاقته بسلوك الإنسان.
• وكان الأطباء يعتقدون قبل ذلك أن هذا الجزء من المخ الإنساني منطقة صامته لا وظيفة لها. فمن أعلم محمد صلى الله عليه وسلم بأن هذا الجزء من المخ (الناصية) هو مركز القيادة للإنسان والدواب وأنه مصدر الكذب والخطيئة.
• لقد أضطر أكابر المفسرين إلى تأويل النص الظاهر بين أيديهم لعدم إحاطتهم علماً بهذا السر، حتى يصونوا القرآن من تكذيب البشر الجاهلين بهذه الحقيقة طوال العصور الماضية، بينما نرى الأمر في غاية الوضوح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في أن الناصية هي مركز القيادة والتوجيه في الإنسان والدواب.
فمن أخبر محمد صلى الله عليه وسلم من بين كل أمم الأرض بهذا السر وبهذا الحقيقة؟!
إنه العلم الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو شهادة من الله بأن القرآن من عنده، لأنه نزل بعلمه سبحانه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق