قصة فان جوخ.. الرسام الذي قطع أذنه
في السابعة والثلاثين من عمره، وضع الرسام الأشهر فان جوخ حداً لعذاباته الروحية والنفسية، عندما أطلق النار على نفسه منهياً حياته، وكما هو معروف فإن فنسنت فان جوخ من أهم أعلام الفن التشكيلي الحديث، وخلال حياته الفنية التي شغلت السنوات العشر الأخيرة فقط من عمره القصير، صنع عدداً هائلاً من الأعمال الفنية يفوق ألفي قطعة ما بين لوحة زيتية ورسم.
وأنجز فان جوخ معظم هذه الأعمال خلال عاميه الأخيرين اللذين قضاهما في فرنسا، كما خلّف تراثاً رفيعاً في رسائله التي كان يكتبها بشكل شبه يومي كسجل حقيقي لسيرته، حسبما يذكر ياسر عبداللطيف في مقدمة ترجمته لكتاب «المخلص دوماً فنسنت.. الجواهر من رسائل فان جوخ».
والكتاب أعده ثلاثة مؤلفين هم ليو يانسن، وهانز لويتن، ونيينكه باكر، ويتضمن 265 خطاباً و108 اسكتشات أصلية وصوراً للرسام الراحل، وترجمها من الإنجليزية للعربية ياسر عبداللطيف ومحمد مجدي.
حياة الفنان المعذّب فان جوخ
وقد عرف قراء العربية في السابق أطرافاً من سيرة «فنسنت» كما كتبها الروائي الأمريكي إرفينج ستون في عمله الشهير «شهوة للحياة» الذي تُرجم للعربية في القاهرة منذ عقود تحت عنوان «حياة فان جوخ».
ولاقت هذه الرواية نجاحاً عند نشرها بالعربية، وساهمت في صنع أسطورة حول حياة ذلك الفنان المعذّب توازي شهرة أعماله الفنية، بل وتفوقها في بعض الأحيان.
وقد رسمت حادثة انتحار فان جوخ، ومن قبلها قصة أذنه التي قطعها ليهديها إلى إحدى فتيات الليل، ملامح شخصية شاعت عن «المجنون الأشهب» كما كان يسميه أهالي بلدة آرل، تلك المدينة الصغيرة بالجنوب الفرنسي والتي لجأ غليها بحثاً عن الدفئ والألوان المشعة، وفي تلك المدينة تحديداً بدأت رحلته الجادة مع الاضطراب النفسي.
طفولة فان جوخ المشّاء العظيم
وُلد «فنسنت» في إقليم برابنت الخصيب جنوبي هولندا، حيث كان أبوه يعمل كاهناً ريفياً في كنائس وأبرشيات قرى تلك المنطقة، فنشأ متشبعاً بحب الطبيعة والميل غلى نمط الحياة الريفي الوادع البسيط.
وعاش منذ استقلاله عن بيت أبويه قلقاً، وتنقل في الإقامة بين بلدات الريف الهولندي والبلجيكي والإنجليزي والفرنسي، وكذلك عاش في مدن أمستردام ولاهاي ولندن، وكثيراً ما كان يسافر بين هذه المدن والبلدات سيراً على قدميه قاطعاً المسافات الطويلة، ومُسجلاً انطباعاته ومشاهداته في رسائل مسهبة، وكان بحق أحد المشائين العظام.
وقرب نهاية عمره استقر في باريس عاصمة القرن التاسع عشر، حيث كانت الحركة الانطباعية – إحدى مدارس الفن التشكيلي – في أوجها، وهاك وُلد من جديد مع التحاقه بالرعيل الثاني لهذه الحركة التي تعتبر الأهم في تاريخ الفن الحديث.
لكنه سرعان ما ضج من حياة المدينة الصاخبة وأوساط الفنانين ونميمتهم التي لا تنتهي، ولجأ ثانية إلى الريف الفرنسي حيث سيبقي أيامه الأخيرة.
فنسنت بين فاشل ومجنون
وعلى الرغم من أنه تقلب بين عدد من المهن في أثناء رحلته وتجواله بين البلاد، من موظف في شركة لتجارة الأعمال الفنية في باريس ولاهاي ولندن، إلى مساعد معلم في مدارس الريف الإنجليزي، إلى واعظ إنجيلي في مناجم الفحم البلجيكية، إلا أن «فنسنت» عاش معظم حياته بلا مصدر حقيقي للدخل، سوى المساعدات الشهرية التي كان يمده بها شقيقه «تيو».
وبعد احترافه للفن نحو عام 1880 لم يفلح في بيع غير عدد قليل جداً من اللوحات، ما ضاعف من اضطرابه النفسي وساهم في تعميق عزلته.
وغالباً ما كان يُنظر له باعتباره مجنوناً فاشلاً، حتى من أفراد عائلته، ومجتمع الطبقة الوسطى المتدين المحافظ الذي نشأ فيه.
ولم يحظ «فنسنت» بالاعتراف الفني الكامل والشهرة اللذين يستحقهما، سوى بعد وفاته عام 1890.
تأملات فان جوخ الروحية
ولما كان «فنسنت» قد ضل السبيل طويلاً قبل أن يهتدي إلى طريقه الحقيقي مع الرسم والتصوير، فقد خرجت معظم أسئلته الروحية وتأملاته في الطبيعة والمجتمع والأخلاق والفن والأدب في رسائله التي دأب على كتباتها بشكل شبه يومي، ومنذ فترة مبكرة من حياته.
وكان شقيقه الأصغر «تيو» هو المتلقي الأساسي للغالب الأعظم من هذه الرسائل، وهي بمعزل عن الجانب الإخباري فيها وطلبات الدعم المادي المتواصلة، تكاد تكون قطعاً نثرية يتنقل فيها السرد بين الوصف الفني للطبيعة والاستبطان في صورة تساؤلات يطرحها الفنان على ذاته حول الفن وماهيته، أو أسئلة فلسفية تخص الدين والأخلاق والوجود بشكل عام.
علاقة نادرة بين فان جوخ وشقيقه
وتبقى علاقة الشقيقين فان جوخ من أغرب وأندر علاقات الأخوة في تاريخ الأدب والفن.
ولكن فضلاً عن «تيو»، كتب «فنسنت» أيضاً رسائل إلى والديه وشقيقاته وعدد من أقاربه وأصدقائه الفنانين، ولكن يبقى «تيو» محاوره الرئيسي الذي استأثر بنحو 95% من هذه المخاطبات.
وكثيراً ما فُسر تعاطف تيو الدائم مع شقيقه المضطرب ودعمه المادي المتواصل له بنزوع تجاري لدى الأول دفعه للاستثمار في شقيه الموهوب، حيث حتماً ستسفر لوحاته عن كنوز مستقبلية.
لكن الشواهد تشير إلى أنه لم تكن هناك أية دلالات للتنبؤ بالنجاح والشهرة الساحقين اللذين حازهما «فنسنت» بعد انتحاره بوقت قصير، كما أن «تيو» الذي لم يقل كثيراً عنه مرضاً واضطراباً سرعان ما لحق به فتوفى بعده بستة أشهر فقط، ليُدفن بجانبه في المقرة نفسها بقرية أوفير شمالي باريس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق