ما تعريف كلمة تضحية؟ ربما هناك الكثير من الكلمات التي تعطي وصفاً دقيقاً لهذا المعنى المتألق في العالم البشري، ولكن، هل كانت مستحبة يوما ما منذ خمسة آلاف عام؟ فلنذهب الآن في رحلة في العالم القديم للحضارة المصرية ترافقنا روايات مجهولة ..
الحدث – الفرعون في الضفة الغربية
عحا – المحارب – مؤسس أقدم الأُسر الملكية في الحضارة المصرية القديمة قد قُتِل، لم يقتل أثناء توحيده لمملكتي النيل ، و لا أثناء بناء عاصمته ( ممفيس ). حسب رواية قديمة فقد انتهى عامه الثاني و الستين في الحكم بعد مقتله في رحلة صيد .. حيث وطأته بوحشية أقدام فرس نهر جامح ، ولأن خدمة الفرعون شَرفٌ للبعض ، فقد كان هذا الشرف مرعباً عند رحيل الفرعون للعالم الآخر .
طريق أبيدوس
( دجر ) خليفة ( عحا ) ، كهنة مصر ، الوزير مسؤول الخزانة ، رجال الإدارة ، و مجموعة من الحاشية الملكية تتجه بموكب حزين نحو مبنى معزول محاط بالطوب. وبوسط ساحة مكشوفة بدأ الكهنة بطقوسهم الغامضة لضمان الخلود لعحا وبين سحب البخور و الأناشيد الجنائزية، و في ذروة الاحتفال .. وكتعبير أخير للولاء – ربما قسراً – تم تسميم ستة أشخاص ودفنهم في القبور المجاورة للمدفن الملكي مع الطعام والنبيذ ليخدموا سيدهم في الحياة الأبدية .
كان أحدهم طفلا في الرابعة أو الخامسة من العمر ( ربما الإبن أو الإبنة المفضلة للفرعون ) عقب ذلك سار الموكب نحو مجمع عحا الجنائزي المكون من ثلاث غرف و مزود بالإمدادات اللازمة لضمان حياة مترفة في الأبدية . و عند ذروة الاحتفال صرعت عدة أسود ودفنت مع مجموعة مختارة من الحاشية تناولوا السُم أيضاً و التحقوا بملكهم في العالم الآخر .
هكذا كانت تتم جنازة الفرعون سنة ٢٩٠٠ ق.م؟ إنه سيناريو مقبول نوعا ما لدى بعض الخبراء بالحضارات القديمة ، و لكن هل هي محل ترحيب؟ خصوصاً أن المعني بهذه الرواية هم صناع الحضارة المصرية و واحد من أهم ملوكها.
أبيدوس – مدينة الموتى
إن أبيدوس تُعتَبر مصدراً مهماً للمعلومات والآثار المصرية . ولكن أبيدوس ليست كما نتخيلها في هذه اللحظة ، فهي أشدُّ وأكثر تواضعاً من المجمعات الجنائزية الضخمة التي ستقام فيما بعد لملوك مصر . ولكن أبيدوس هي المصدر الأهم و الأثرى للبحث عن بداية الأسرة الملكية الأولى حيث الفترة المحورية التي أرسى فيها الملوك جذور الديانة والحكومة والحضارة التي ستستمر للثلاثة آلاف عام القادمة .
مفاجآت أبيدوس
ربما كان عحا الأول و لكنه عاماً ليس الأخير بين الملوك الذي أكرموا خدمهم بمرافقتهم إلى العالم الآخر . فالمفاجأة المدويّة كان تبالعثور على عدة مقابر ملكية محاطة بمئات من القبور للخدم وصفوة الحاشية والقوم .. فضمن الفناء الجنائزي الأشهر ( الشونة أو شونة الزبيب – أي المخزن ) ، يقع بناء الفرعون ( خع سخموي ) من الأسرة الثانية .. محاطاً بمئات القبور للبشر ولغير البشر ، و حتى للقوارب ، ومساحة فناء الملك ( خع سخموي ) يبلغ حوالي أكرين من المساحة المكتشفة حتى اللحظة ، و ربما فناء الملك ( بر إبسن ) الذي يفوق فناء سلفه ضخامة أكبر دليل على مدى إسراف قدامى المصريين بالتضحية البشرية .
ما قبل الرحيل..
كيف قتلوا ؟ السُم ؟ ربما فعلها البعض ولاء للملك .. وربما فعلها ال٣٩ شخصاً بشكل طوعي أو – خشية – من غضب الآلهة ، لكن هذا العدد معقول مقارنة بباقي المدافن . فعندما اكتفى عحا ببعض الحاشية ، هناك من وضع معه المئات من المرافقين ، هل ضحوا بأنفسهم دون مقاومة ؟ هل تركت قبورهم مفتوحة حتى قدم ساعتهم ؟ لا ، فبلندا باركر الباحثة الأثرية أوضحت أن القبور حفرت و أغلقت معاً . وحسب علامات ما قبل الدفن على بقايا الأجساد ، فقد جزمت بلندا بأن هؤلاء من الفئة المختارة كانوا واعين أو شبه ذلك ( مُخدرين ) و ربما قتلوا خنقاً على يد جلادين مخصصين للمشهد الأخير . و تضيف نانسي لوفيك المتخصصة في الأنثروبولوجيا الطبيعية بجامعة ألبرتا بعد دراسة بعض الجماجم و عثورها على آثار بقع داخل أسنان الضحايا :
” عندما يختنق شخص ، يمكن أن يتسبب ذلك في زيادة ضغط الدم داخل أسنانه مما يؤدي إلى تمزق وبقع في عاج الأسنان ، و هو الجزء من الأسنان الذي يقع تحت طبقة المينا مباشرة “.
يضيف دافيد أوكونور – العالم الأثري الشهير : ” أن أسلوب قتلهم لا يزال سراً ، قتلوا نعم ، لكن تم تخديرهم غالباً ، فآثار المقاومة قليلة على بقايا الجثث ” .
على كشوف الحضارات
عُثِر في أور – العراق حالياً – عن المئات من قبور ضحايا التضحية بالبشر يعود تاريخها إلى سنة ٢٥٠٠ ق.م و تتصل بدفن ملوك و ملكات *ميزو بوتاميا . وقد وجد دليل التضحية بالبشر في الحضارة النوبية و الحضارات الأمريكية القديمة و حضارات أكثر قِدماً أيضاً .
أين انتهت؟ ..
في مصر و بكل بساطة انتهت هذه الممارسة عقب استلام الأسرة الثانية للحكم بفترة قصيرة و بشكل مباشر ، و لكنها بلغت ذروتها و كثافتها في عهد دجر خليفة عحا ، حيث عُثِر على أكثر من ٣٠٠ قبر إلى جوار مقبرته و ٢٦٩ قبراً آخر تحيط بفنائه الجنائزي . و لكن ( قاعا ) آخر حكام الأسرة الأولى اكتفى بأقل من ٣٠ قبراً فقط . و بقدوم الأسرة الثالثة بدأ فراعنة مصر ببناء مقابرهم في سقارة إلى الشمال بما يزيد عن ٢٥٠ ميلا ، وهناك نشأ تقليد جديد بدمج المقبرة الملكية والفناء في مجمع واحد على شكل هرم بسيط ( بداية بناء الأهرام كان بسيطاً نوعا ما ) ، و أهملت أبيدوس على مدى ال٧٠٠ عام التالية .
عودة أبيدوس
في عصر الدولة الوسطي أصبح أتباع أوزوريس قوة كبيرة في الديانة المصرية ، و تقول الأسطورة : أن ( أوزوريس – سيد العالم الآخر ) هو أيضاً أول ملوك مصر قد دفن في أبيدوس ، ولذلك قام الفراعنة بإرسال الكهنة ببعثات أثرية للكشف عن موقع مقبرة أوزوريس . و قد كشفوا العديد من مقابر الأسر الأولى ، ولكنهم في النهاية قرروا أن مقبرة ( دجر ) هي مقبرة أوزوريس . وهكذا أصبحت أبيدوس المزار المقدس لمصر القديمة ، وبدأ الفراعنة ببناء المعابد و شق الطرقات باتجاه أبيدوس . وقد قام مئات الآلاف من المصريين – عامة شعب و فراعنة – بالحج إلى أبيدوس للمشاركة في الاحتفال السنوي ببعث الملك الآله . و في الطريق ، وعند بلوغ الاحتفال ذروته بعد وصول الحجاج ، يقوم الكهنة بتقديم القرابين سعياً لنيل بركة أوزوريس بدون أن يعلموا أن تحتهم المئات من أسلافهم أعضاء الحاشية الملكية يرقدون رغماً عنهم في هذا المزار المقدس .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق