المشربية.. وعودة إلى الزمن الجميل
العمارة الإسلامية زاخرة بالفنون التي اتسمت بالذوق والإحساس، وبالتوازن ما بين الغايات المعمارية والبيئية والدينية والاجتماعية والاقتصادية بل والجمالية أيضا… معادلة صعبة أن تحافظ على جميع تلك المفردات في إطار من الجمال والذوق.. ومن النادر أن نجد هذا كثيراً الآن.!
من فنون العمارة الإسلامية التي نقف أمامها حائرين مستمتعين مستمتعين بكل تفصيلة من تفاصيلها.. المشربيات..
وقد لفتت المشربيات انتباه المستشرقين والكثير من الرحالة الذين وفدوا على البلاد الإسلامية وخاصة مصر، فقد ظهرت لوحات عديدة مرسومة للمشربيات في كتاب وصف مصر ورسمها الكثير من الفنانين في لوحاتهم أمثال (بيرس دافن وديفيد روبرتس).
كما ذكرها إدوارد وليم لين في كتابه فقال: (أما الغرف العلوية فنوافذها تبرز بمقدار قدم ونصف وأكثر، وأغلبها مصنوع من الخشب المخروط المشبك).(1)ما هي المشربية؟
المقصود بالمشربية ذلك الجزء البارز عن سمت حوائط جدران المباني التي تطل على الشارع أو على الفناء الأوسط للمنازل الإسلامية، ويستند هذا الجزء البارز إلى (كوابيل) و(مدادات) من الحجر أو الخشب تربط الجزء البارز من المبنى، بينما تغطى الجوانب الرأسية الثلاثة لهذا الجزء البارز بحشوات من الخشب الخرط المكوّن من (برامق) مخروطية الشكل، دقيقة الصنع تجمع بطريقة فنية بحيث ينتج عن تجميعها أشكال زخرفية هندسية ونباتية أو كتابات عربية. (2)أصل التسمية:
إن كلمة المشربية محرَّفة من مشربة، بمعنى الغرفة العالية أو المكان الذي يُشرب منه؛ حيث كان يوضع في خارجات صغيرة بها أواني الشرب الفخارية (القُلَل) لتبريد المياه بداخلها، وربما يؤكد ذلك حِرْصَ الصنَّاع على وجود موضع للقُلَل بأرضية المشربية، وقيل إن المشربية تحريف ظاهر لكلمة “مشرفية” أي التي تُشرف منها النساء على الطريق، أو لكونها طاقةً خارجةً تشرف على الطريق، وهناك رأي ثالث يرَى أنها سُمِّيت بالمشربية لصناعتها من خشب يُعرف بالمشرب، وهو نوع من الخشب الجيِّد يتميَّز بصلابته وتحمله لحرارة الشمس والعوامل الجوية، ثم اتسع مدلول هذا المسمَّى ليشمل كل الأجنحة الخشبية المنفّذة بطريقة الخرط والتي كانت تغشى بها النوافذ. (3)
كما عرفت المشربية أيضا في باقي الدول الإسلامية باسم الروشان أو الروشن وهي تعريب للكلمة الفارسية (روزن) والتي تعني الكوة أو النافذة أو الشرفة.تاريخها:
تعود المشربيات إلى ماقبل القرن السادس الهجري (11م) واشتهرت في مصر لبراعتها وتفردها في النجارة الإسلامية والمشغولات الخشبية، لا سيما الأعمال التي استخدمت فيها أخشاب الخرط الدقيقة الصنع، وأضاف النجار المصري عليها الطابع الإسلامي، حتى وصل قمة روعته خلال العصر العثماني.
ومن أجمل النماذج للمشربيات تلك التي نجدها في منزل زينب خاتون وقصر المسافر خانة والهراوي وبعض المنازل القديمة بالقاهرة ورشيد وفوه، وكذلك في المتحف الإسلامي.فوائدها ومزاياها:
* كما قلنا من قبل إن الصانع المسلم حين عكف على عمل المشربية وضع أمامه دينه الإسلامي وتقاليده ومجتمعه، فجائت وظيفة المشربية الأولى وهي الحفاظ على الخصوصية للأسرة المسلمة، فهي عبارة عن سواتر تحمي الأسرة من عيون المارة والغرباء والجيران، ولا يستطيع المارة رؤية ما وراء المشربيات لاختلاف كميات الضوء داخل المشربية عن خارجها ، كما أن المشربيات الداخلية المطلة على فناء البيت تفصل الضيوف والغرباء عن باقي أفراد الأسرة.وابتكار المشربيات ساهم في حل مشكلات عديدة من مشاكل العمارة وهي مشاكل التهوية والإضاءة والرطوبة، فالمشربية عالجت مشكلة المناخ الحار في البلاد العربية، فقد عملت على تلطيف حدة الضوء وإنزلاق الهواء على سطحها مما يجعلها تعطي تهوية رائعة للمكان الذي تحتويه، فهي تقلل نسبة الأشعة المارة من خلالها وتكسرها وتعمل على التحكم في مرور الضوء، وذلك باختلاف فراغات المشربية في الأجزاء السفلية والأجزاء العليا؛ حيث نجدها ضيقةً في الأجزاء السفلية من المشربية ومتسعةً في الأجزاء العلوية، كما أن الأسطح الكروية لعناصر الخرط تحقِّق انزلاقًا للهواء عليها؛ مما يعطي تهويةً جيدةً أكثر مما إذا كانت هذه الأسطح مربعةً أو مستطيلةً، كما أن بروز المشربية عن مستوى الحائط يُتيح لها التعرضَ لتيارات الهواء الموازية لواجهة المنزل؛ كما تم التحكم في درجة الرطوبة الداخلة للمنزل، وذلك يرجع لطبيعة المادة المصنعة منها وهي الخشب، فكما هو معروف أن الخشب مادة مسامية طبيعية مكونة من ألياف عضوية تمتص الماء وتحتفظ به مع مراعاة عدم طلائها بمادة قد تسد هذه المسام، وقد تزود المشربيات بضلف مصمتة من الخشب أو الزجاج لاتقاء برد الشتاء. فاستطاع سكان الأمس التحكم في شدة الضوء والهواء والرطوبة من خلال المشربيات قبل ظهور الكثير من الاختراعات.
* وفن المشربيات فن اقتصادي للغاية، فطريقة الخرط نفسها تقوم على توظيف القطع الصغيرة من الخشب وذلك بخرطها وتجميعها فيتم الاستفادة بقطع الخشب مهما كان صغرها، وهذا يتماشى مع الحالة الاقتصادية للبلاد الإسلامية فهي تفتقر للأنواع الجيدة من الخشب فتستورده من الخارج فمهما تبقى من خشب الأسقف والأبواب والنوافذ وغيرها من وحدات البناء يستغلها الصانع الماهر في تصنيع المشربية.
* وبجانب الناحية المعمارية والدينية والبيئية والاقتصادية حافظ الصانع على القيم الجمالية بل وجد فيها مجالاً خصباً لابراز قدراته الهندسية والفنية والزخرفية، خاصة في مصر، فالمشربيات كانت من الروعة والجمال بحيث تعد تحفًا قيمة شاهدة على مهارة واحساس الصانع الماهر، فاكتسبت واجهات المنازل جمالاً أضفى عليها عظمة وفخامة وحيوية، فهذه مشربية تزخر بكثير من الزخارف النباتية والهندسية وأخرى عليها رسومات لبعض الطيور، وتلك عليها بعض الكتابات مثل (الله، بسم الله الرحمن الرحيم)، وبعض المشربيات ظهرت فيها مهارة الخرط الدقيقة على هيئة مكعبات أو كرات أو مستطيلات أو مربعات دقيقة الصنع تتخللها أخشاب على هيئة أعواد إما أفقية أو رأسية أو مائلة.
ظهرت المشربيات أيضا في كل من العمارة الحجازية في المدينة المنورة ومكة المكرمة وجدة وينبع، وظهرت في اليمن لكن مصنوعة من الحجر وظهرت في فلسطين خاصة القدس وفي بعض دول الخليج مثل البحرين، وظهرت بشكل أقل إتقانا وبساطة في المغرب ولبنان والسودان.
اهتم قلة قليلة من مهندسينا بهذا الفن ونذكر منهم المعماري حسن فتحي الذي أدخلها في بعض تصاميمه؛ أما الآن ففن المشربيات من الفنون التي اندثرت وأصبح الحصول على مشربية الآن كمن يحصل على تحفة أثرية بائدة للتباهي بها، مع أن البديهي أننا أصبحنا في حاجة لها بعد ازدياد عدد السكان واقتراب المنازل من بعضها البعض، فبدلا من التندات والزجاج الفوميه والستائر الخارجية، لم لا نعود للمشربيات؟ بدلا من الاختراعات المستوردة، لم لا نعود للمشربيات؟ كقيمة جمالية تبعدنا عن رتابة واجهات البيوت والعمارات، لما لا نعود لكل ما هو أصيل وجميل ويناسب شخصيتنا التي أصبحت تائهة وسط الكثير من التناقضات التي تنوي طمسنا وطمس كل ما يعبر عنا….
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق