رسالة الى الابن المجهول
أظنها فى أوائل الخمسينات من عمرها..
ثيابها قديمة, رثة ، مهللة ، سوداء تثير فى القلب الشجن..
وجهها أظنه كان يوماً كحبة العنـب الحمراء تملئه الحياه والدم فإستحال إلى حبة زبيب ناشفه تملئه التجاعيد والحفر ، قد أخذ منه الزمان ما أخذ..
عيناها غائرتان عميقتان تحيط بهما دوائر سوداء من مخلفات معارك الحياة،،وجنتيها عليهما بقايا من غبار الزمن المتراكم ..
وقطرات من الدموع أظنها جفت من سهر تلك الليالى الطويله….!!
هكذا رأيتها للمرة الأولى وهى واقفة أمام باب بيتى ممسكه فى يدها ورقه باليه وقلم لا أدرى من أين أتت به وقالت لى بصوت كدت أن لا أسمعه فى صيغه رجاء قالت وكلها إستحياء ” أكتب لى رساله” ….!!!
أخذت بيدها وأدخلتها هويناً وأجلستها على كرسى وأحضرت ورقه من عندى معدّة لكتابه الرسائل وقلت لمن الرساله يا .. ؟ ،، لم أكمل جملتى الأخيره حين قاطعتنى هى وكلها حزن عجبتُ لأمره وقالت أكتب…!
….إبنى الغالى …
بعد التحية والسلام.
أزفُ إليك قبلاتى كأسراب الحمام..
وددت لو أنى أبعث حنينى كله بين الأسطر لتعرف كم أنا مشتاقه إليك يا ولدى …
إبنى الحبيب…
تسعة أشهر وأنت هنا فى أحشائى تنام ..
تسعة أشهر وأنت جار لقلبى ،، أحب جيران ،، أعز جيران…
تسعة أشهر وأنا على ظهرى أنام ودمى يسرى فى شراينك…
تسعة أشهر وأنت بين الأضلع مسكنك وفى الحنايا موطنك ما أروعها أشهر وما أحلاها أشهر…
كنتُ فيها أغفو و أحلم..
وأراك فى حلمى تحبو وتكبر ..
وأراك بين الصبية الأجمل ..
وأراك بين الفتيه الأطول..
وأرك بين أورقك تدرس لتصبح الأمهر ..
وأراك بين الرجال الأقوى ..
وأعود لأصحو على ململه منك تداعب بها روحى ويا لفرحتى ويا لسعادتى وأنت بحركاتك تداعب روحى …!!
أعرف انك رجل من عالم الرجال..!
وليس هناك رجل يعرف معنى الأنثى الحامل ولا فرحة الأنثى الحامل ولا نشتوها ..!
يكفى بعداً ما عدت أطيق صبراً..
الموت يا صغيرى فى كل يوم يطرق بابى طرقه ويعود متخفيا بأخر الليل ليعود ويطرق طرقتين..
وأنا أبات خائفه يا ولدى وحيدة ..
أخاف أن يداهمنى ويدخل قبل أن أراك..
تعالى يا إبنى ولو لمرة واحده ..
ولو ليوم واحد ..
ولو لثانيه واحده ..
قل يا أمى مرة و إرحل كيفما شئت ..
عد حتى أقبّل يديك ..
نعم أنا مشتاقة لأن اقبّل يديك ..
عد لأجل أن أحنو عليك …
تعالى لتشهد موتى..
تعالى لتبنى قبرى ..
تعالى لتشترى كفنى وتحمل نعشى …!!
لو بيدى لزرعت العطف فى قلبك ..
لو كان الأمر بيدى لزرعت الحنين بين عينيك..
لترحم إمرأة جاوزت الخمسين من عمرها وتبقى بين الناس غريبه.، وحيده ، خائفة !!!
وأخير تحياتى وحبى وحنانى اليك يا أغلى وأعز الناس لكبدى..!
ملحوظة …! ” لا تنس أن تاكل جيداً وتشد عليك غطائك قبل أن تنام …!! “””
كانت الدموع تملأ عينى وعينها حينما مدت يدها والتقطت منى الرسالة وضمتها على صدرها بشدة حتى صرتُ أخاف على الورقه من جراء ضمتها ..
وأخذت تقبلها بنهم وولع وكأن إبنها يرقد بين أحرفها.. ،،
وساد الصمت بيننا للحظات وجيزه ، صمت أبلغ من أى كلام ..
المشاعر فقط هى من كانت تثرثر وتستنزف كل ما فى جعبتها.. ،،
إقتربتْ بعدها بخطوات متثاقله من النافذه بصمت المتعبين وألم الكادحين والقت الرساله فى مهب الريح ،،
ولا أدرى كيف فى صخب كل تلك المشاعر لم تنس أن تأخذ قلمها قبل أن ترحل ..!!
وقفت أنا مذهولاً لثوانى قليله قبيل أن أهرول ورائها لكنها كانت ضاعت وسط زحام الناس لا يعبأ بها أحد ولا يلحظها أحد ..
أوقفنى جارى وهو يلاحق نظراتى التى تتبعها وقال لى ..
مسكينه فى كل يوم تبحث عن شخص يكتب رساله لها ،
مسكينه هذه المرأة مسكينه..!
أمضت طول عمرها عاقر لم تحمل أبداً .. ولم تنجـب أبداً ..!!!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق