العمل المدمر || من كتابات د : أحمد خالد توفيق
العمل المدمر || من كتابات د : أحمد خالد توفيق
نُشر في: 21 أغسطس ٢٠١٤
فرانك ستوكتون Frank Stockton أديب أمريكي ذائع الصيت، اشتهر في القرن التاسع عشر وتُوفِّي عام ١٩٠٢، وله مجموعات من القصص القصيرة كلها فائق الإمتاع. من ضمن هذه القصص سوف تتذكَّر على الفور قصة «الفتاة أم النمر؟» وهي من القصص القصيرة النادرة ذات النهاية المفتوحة، والتي أثارت جنون القراء على مدى الأعوام وهم يحاولون تصوُّر نهايتها، وهي طراز من القصص يطلقون عليه Riddle أو «أحجية».
ليس هذا موضوعنا على كل حال، وإن كان من المهم أن نعرضها في مقال آخر. ما نتكلم عنه اليوم هو قصة طريفة له عن كاتب يؤلِّف قصصًا قصيرة متوسطة المستوى ويرسلها للمجلات. بهذا يحقِّق دخلًا معقولًا له وزوجته، ويضمن أن يتناول عشاءه على الأقل كل ليلة. في ليلة سوداء يهبط عليه الإلهام، فيكتب قصة مؤثِّرة رائعة اسمها «المرحومة أخت زوجته». عندما قرأَتْها زوجتُه ظلت صامتة بعض الوقت، ثم انفجرت في بكاء حارٍّ. قالت له وهي تُفرِغ مخاط أنفها: «هذه أروع قصة قرأتُها في حياتي.»
كان هذا أفضل ما توقَّعه. هكذا وضع القصة في مظروف وأرسلها للمجلة التي ينشر فيها. صدر عدد المجلة التالي وفيه القصة، وهكذا لم يَعُدْ للقراء همٌّ سوى أن يرسلوا يُطرون القصة ويمتدحون ما فيها من عواطف حارة … انهالت الرسائل تصف كم أنها مؤثرة، وكم أن هذا الرجل عبقري، وقد اضطر رئيس التحرير اضطرارًا إلى أن يرفع مكافأة المؤلف عن القصة الواحدة.
انتهت ضوضاء «المرحومة أخت زوجته» وعادت الحياة تنتظم … المجد لا يبقى للأبد، وقد حان وقت إطعام المعدة الجائعة. كتب قصة جيدة اسمها «الغراب» وأرسلها للمجلة … فجأة عادت له القصة وقد أرفق رئيس التحرير رسالة يقول فيها:
قصة جيدة … لكن القارئ الآن لم يَعُدْ يَقْبَل هذا المستوى من القصص. لن يقبل بأقل من «المرحومة أخت زوجته».
أُصِيبَ المؤلف بالذعر؛ فأرسل القصة لمجلة أخرى … بعد يومين عادت بالبريد ومعها رسالة تقول:
لا نريد أن نبدِّد النجاح الساحق لقصة «المرحومة أخت زوجته» بقصة متوسطة المستوى كهذه.
كتب قصصًا أخرى، وفي كل مرة كانت تُعاد له مع القول إنها ليست على مستوى رائعته «المرحومة أخت زوجته». نحن لا نريد أن نضايق القراء أو نهدم المجد الذي صنعه اسمك … لن ننشرها. كان يصيح: انشروها وادفعوا لي مالي … فليذهب المجد إلى الجحيم … لا أريد مجدًا! أريد أن آكل أنا وزوجتي.
الأمر دخل دائرة الخطر؛ لأنه وزوجته صارا جائعين ممزَّقَي الثياب، ولا نار في البيت. وأقنعته زوجته بأن يكتب قصصًا أخرى يرسلها باسم مستعار للمجلات. هكذا بدأت المجلات تنشر لهذا الكاتب «الآخر» متوسط المستوى، وبدأ المال يتدفق من جديد …
كان ينظر من النافذة مفكرًا في هذه التجربة، فرأى رجلًا يسنُّ السكاكين على مسنٍّ، ولاحظ أنه يتخلَّص من بعض السكاكين من وقت لآخر. سأله عن السبب، فقال الرجل: «هذه السكاكين التي أتخلَّص منها مسنونة ببراعة وإتقان؛ لذا اتخلص منها. لو رآها الزبائن لطالبوا بهذه الجودة للأبد، ولَمَا اشتروا أي شيء أصنعه!»
في تلك الليلة جلس المؤلف يكتب شاعرًا بأن الإلهام يزوره … حتى الصباح ظلَّ يكتب … في النهاية انتهى من قصة رائعة اسمها «أحزان الخريف». أعطاها لزوجته لتقرأها … راحت تطالعها ثم بدأ أنفها يحمرُّ … سال الدمع من عينيها وهتفت: «أروع قصة قرأتها لك … لم أبكِ بهذا الشكل منذ قصة … قصة …»
ثم تبادلت نظرة مذعورة معه وأردفت: «… منذ قصة «المرحومة أخت زوجته»!»
ارتجف في رعبٍ ورفع يده يُسكِتها، وعندما جاء الليل وضعا القصة في زكيبةٍ مُحكَمة الغلق، ثم خرجا إلى الخلاء واختارا مكانًا عند الهضبة، وهناك حفر حفرة عميقة ألقى فيها الزكيبة، ثم سدَّا الحفرة بالحجارة والغبار! … لن تعود هذه القصة للحياة أبدًا.
هذه هي العقدة التي يعرفها كل فنان … هناك العمل المدمِّر الذي يحرق كل عمل تالٍ بنيران المقارنة، بعدها لا يبتلع القارئ أو المُشاهد أي عمل آخر: «أنتَ لم تقدِّم بعدُ ما يقترب من روعة العمل كذا.» جرَّب المخرج يوسف شاهين هذا مع فيلم الأرض، وظل مذاق المرارة في فمه حتى النهاية … خيري بشارة جرَّبه مع «الطوق والأسورة»، حتى قال في ضيق أثناء مؤتمر صحفي لفيلم جديد له: «أنا لا أستطيع تقديم «الطوق والأسورة» لك للأبد … لو كنتَ تحبه لهذا الحد فلتذهب لتشاهده ثانية، لكن لا تحبسني فيه.»
كل فيلم لستانلي كوبريك كانوا يقارنونه بروائعه السابقة، ويصلون إلى أنه قد فقد لمسته. عندما قدَّم فرانك باوم قصة «ساحر أوز» عام ١٩٠٠ قرَّر أن يتحدَّى نجاحها الوقح ويثبت أنه قادر على تقديم سواها، لكنه كتب عشرات الروايات الممتازة فلم يقرأها أحد أو يذكر أيُّ شخص حرفًا منها. الشاعر الفرنسي العظيم بول جيرالدي اعترف أن ديوان «أنت وأنا» الذي كتبه وحقَّق نجاحًا مذهلًا قد دمَّر حياته فعلًا
بالنسبة للشخصيات الناجحة تكون هذه كارثة أخرى؛ فالناس تحب الشخصية ولا تَقْبَل أن يقدِّم الكاتبُ سواها، ولعل هذا من أسباب إصرار آرثر كونان دويل على قتل شيرلوك هولمز. هولمز الشخصية التي تضخَّمت وصارت أقوى من المؤلف نفسه، ثم لم يَعُد القارئ يقرأ سواها. قتل دويل بطله وراح يحاول تقديم أعمال أدبية متميزة بعيدًا عن عالم هولمز وواطسن. النتيجة هي أنه فشل تمامًا ولم يَقْبَل القارئ منه ذلك، وفي النهاية اضطر إلى أن يُعِيد هولمز للحياة. أعتقد أن دان براون يحاول جاهدًا الفرار من روبرت لانجدون عالِم الرموز الدينية الذي لاحَقَهُ في كل رواياته.
لا أضع نفسي وسط هؤلاء العظماء طبعًا، لكن لو كنت مهتمًّا بذكرياتي الخاصَّة، فأنا ملاحَقٌ دومًا بثنائية «آخر الليل-الجاثوم». وصار من المؤكد أن كل كتيب جديد ليس على مستوى هذه الرواية حتى قبل أن أكتب منه حرفًا. شخصية رفعت إسماعيل كانت ناجحة جدًّا، لدرجة أن الناس لا تنظر بجدية كافية لأي شخصية أخرى. هذا يضايقك بالطبع ويُشعرك بأنك محدود الموهبة أو ناضب القريحة أو سجين بلا زنزانة …
الخلاصة هي أن كل كاتب أو موسيقي أو رسام أو سينمائي لديه «المرحومة أخت زوجته» الخاصة به، لكنه لا يجرؤ بالطبع على وضعها في زكيبة ودفنها في حفرة عميقة في الخلاء. هو شخص تعس بالتأكيد، لكن الأتعس منه هو الشخص الذي ليس في حياته عملٌ فني مدمِّر واحد!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق