كانت مقدمة فتح مكة صلح الحديبية عام 6 هجري ، والذي اعترفت فيه قريش بأن محمدًا صاحب رسالة جديدة ، واضطرت أن تصالحه بعد أن عجزت عن القضاء عليه ، ونزلت فيه سورة الفتح . ثم كانت عمرة القضاء عام 7 هجري هي المفتاح الثاني فقد كان مظهر المسلمين فى توادهم وتراحمهم وصدق عقيدتهم وتعظيمهم لحرمات بيت الله ومظاهر محبتهم الصادقة لرسول الله ما كان سببا فى إسلام من أسلم منهم سرًا أو جهرًا . ثم كان المفتاح الأخير هو نقض قريش للعهد بمؤازرة قبيلة موالية لها ضد قبيلة موالية لرسول الله وقتل رجال منهم عند البيت . وتبعث قريش أبا سفيان بن حرب إلي المدينة في محاولة إصلاح ما أفسدته ، فيفشل فى مهمته ويرجع خائبًا كسيرًا . ويتجهز رسول الله (ص) لفتح مكة ويخرج في نحو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار ومن القبائل المناصرة له ، لا ليسفك الدماء ولا ليقتل الأبرياء ولا ليسلب الأموال ويغتصب الحقوق ، ولكن ليخرج الناس من ظلمات الضلال إلي نور الهداية ، وليحرر البلد الحرام من سيطرة أهل الشرك ويجعله مثابة للناس وأمنا ، ومنارة ينشر منه دين الحق الذي أراده الله.
وهنا نري مدي سماحته (ص) وعفوه عن صحابي أخطأ وبعث رسالة إلي قريش يخبرهم بعزم الرسول علي الفتح ، وتخبر السماء رسول الله فيبعث من يسترد هذه الرسالة من المرأة التي أخفتها في ضفائرها ، ويهمُّ عمر بن الخطاب بقتل حاطب بن أبي بلتعة لظنه نفاقه ، فيتبسم الرسول (ص) ويقول : ( وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع علي أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) ، وتنزل الآيات في صدر سورة الممتحنة تؤرخ لهذه الحادثة .
ويقابله في الطريق عمه العباس مهاجرًا بأهله فيرجع معه ويبعث بأهله إلي المدينة ، ويأتيه أبو سفيان فى مداخل مكة فيعلن إسلامه لما رأي من حلمه وكرمه وصلته لرحمه . ويدخل صلي الله عليه وسلم مكة في 20 رمضان 8 هجرية ، خاشعا متواضعا شاكرا لله علي ما أنعم عليه من هذا الفتح ، قائلا : ( اليومُ يومُ المرحمة ) ، وقال : ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ ، ومن أغلق بابه عليه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ) . وظل يتلو سورة الفتح حتي انتهي إلي الكعبة وأدي تحيتها طوافا وصلي ركعتين وشرب من ماء زمزم ثم دخلها وصلي بها ركعتين ثم خرج عند بابها فقال : ( لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ) ثم خطب الناس خطبة طويلة ختمها بتساؤل : ( يا معشر قريش ماذا تظنون إني فاعلٌ بكم ؟ قالوا : أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم . قال: أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء ) .
هذا هو العفو عند المقدرة شيمة الرجال وسمة الأنبياء ، فتح الله به إغلاق قلوب مُنكرة ونفوس مُتكبرة ، فدخلوا في دين الله أفواجا . ومنذ ذلك صارت مكة المكرمة قبلة الإسلام والمسلمين من مشارق الأرض ومغاربها . وستظل كذلك إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها تهفو إليها القلوب ، فسبحان الله وبحمده كان نصر الله وكان الفتح المبين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق