** فضل العشر الأواخر من رمضان :
– ها قد مرَّ ثلثي شهر رمضان مرورًا سريعا ، فهو كالضيف الخفيف المقام ، وكالنسمة العطرة ، ودخلت العشر الأواخر منه ؛ وهي بمثابة حُسن الختام ، ففيها تعتق الرقاب من النار ، وفيها ليلة هى خيرٌ من ألف شهر .
– والاجتهاد في هذه الأيام والليالي يكون بالقيام والدعاء وقراءة القرآن والاعتكاف ، ولنا فى رسول الله أسوة حسنة ؛ فقد روى البخارى ومسلم بإسناديهما عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها : ( أنَّ النبى (ص) كان إذا دخل العشر شدَّ مِئزَرَه ، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله ) .
والتشمير للسَّاعد كناية عن الاجتهاد فى العبادة زيادة على المعهود ؛ واعتزال النساء وترك الجماع ؛ وأحيا ليله بالعبادة والطاعة والذكر وسائر القربات ومنها كثرة الصدقات إحياءً للقلوب ؛ وأيقظ أهله للصلاة حرصا على اغتنام هذه الأوقات . وكان (ص) يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره ، كما قالت عائشة . وكان النبى (ص) أجود الناس ، وكان أجود ما يكون فى رمضان ، كان أجود بالخير من الريح المُرسلة .
– ومما ينبغى الحرص عليه الاعتكاف فى العشر الأواخر ، وهو الإقامة ولزوم المسلم المُمَيِّز مسجدًا مباحًا كافا عن الجماع ومقدماته ؛ طاهرًا من الجنابة ذكرًا وأنثي ، ويجب علي المرأة أن تكون طاهرة من الحيض أو النفاس ، بنية العبادة ، متفرغاً لها ، قربى لله وطلبًا للثواب ، مناجيًا ربَّه ذاكرًا له ، واقتداءًا بسنة رسول الله (ص) ، فقد كان النبى (ص) يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، وكانت أمهات المؤمنين يعتكفن معه وبعده ، وكان الصحابة يعتكفون معه وبعده . فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يومًا ، وكان يدارس القرآن مع جبريل عليه السلام المراجعة الأخيرة . وفي الاعتكاف تعويد النفس على ترك القواطع والشواغل عن الله ، من الدنيا والرِّفاق والأعمال وغير ذلك حتى تتربى وتتعود على مفارقتها
– والاعتكاف من غاياته تحرى ليلة القدر ؛ فهي ليلة خيرٌ من ألف شهر ، كما قال تعالي : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) } …. وما أدراك ما ليلة القدر؟ فأنت لا تعلم قدرها ، فإن شأنها عظيم ، فهى ليلة أنزل فيها قرآن ذو قدر ، نزل على رسولٍ ذو قدر ، إلى أمةٍ ذات قدر ، فى ليلةٍ ذات قدر هى ليلة القدر ؛ وإن العمل الصالح فيها يكون ذو قدر عند الله تعالى ، فهو خيرٌ من العمل في ألف شهر سواها ، إحْياؤها بالعبادة فيها خيرٌ من عبادة ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر . ووصفها تعالي بأنها سلامٌ ، أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو يلحق فيها أذى بمسلم ، وتكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم العبد من طاعة الله عز وجل .
– وكذلك سُميت ليلة التقدير ، وهي ليلة مباركة لما يُقدر ويُكتب فيها على العباد من الأقدار والأرزاق والآجال التقدير السنوى ؛ وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وقدَّره ؛ تنقل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلي السماء الدنيا إلي علم الملائكة لتنفيذ أقدار الله فى خلقه كلٌّ فى وظيفته ، إذ يقول تعالى :{ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ – أي يُقدر – كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ۚ .. الآية } [ الدخان] .
– وقد روى البخارى عن عائشـة رضى الله عنها قالت : قال رسـول الله (ص) : ( تحروا ليلة القدر فى العشر الأواخر من رمضان) . ثم قال هى فى الأوتار أقرب من الأشفاع : ( تحروا ليلة القدر فى الوتر من العشر الأواخر من رمضان ) .
– وفى رواية عبادة بن الصامت قال (ص) : ( خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى رجلان فلان وفلان ، فرُفعت ؛ وعسى أن يكون خيراً لكم ، فالتمسوها فى التاسعة والسابعة والخامسة ) – رواه البخارى –
– فرُفعت : أى رُفع علم وقتها عيناً .
– وعن عبد الله ابن عباس أن رسول الله (ص) قال : ( التمسوها فى العشر الأواخر من رمضان ، فى تاسعةٍ تبقى ، فى سابعة تبقى ، فى خامسة تبقى ) – رواه البخارى
– وعن أبى بن كعب عن رسول الله (ص): ( أنها ليلة سبع وعشرين ) – رواه مسلم
– وقال عبد الله ابن عباس لسيدنا عمر بن الخطاب : { إنِّى لأعلم أو لأظنُّ أىُّ ليلةٍ هى : سابعةٌ تمضى – أى ليلة 27 – أو سابعةٌ تبقى من العشر الأواخر – أى ليلة 23 – ؛ فقال عمر : من أين علمت ذلك ؟ قال ابن عباس : خلق الله سبع سمواتٍ ، وسبع أرضين ، وسبعة أيامٍ ، والطواف سبع ، والجمارُ سبع ؛ قال عمر : لقد فطنتَ لأمرٍ ما فطنَّا له } .
– وروى عن بعض السلف : أن سورة القدر مكونة من ثلاثين ( 30) كلمة ، وكلمة (هِىَّ ) فى ترتيب كلمات السورة هى السابعة والعشرين ( 27 ) … والله أعلم .
– وتعدد الروايات يؤكد صحتها ، وتغير أوقاتها لنجتهد الأيام كلها فى التماسها … وفيوضات هذه الليلة على الخلق هى توابع ليلة الإنزال ، لذا فهى غير محددة بليلة بعينها في جميع الأعوام ، بل تنتقل في الليالي تبعاً لمشيئة الله وحكمته . والحكمة من إخفاءها ليحصل الاجتهاد فى التماسها خلاف ما لو عُينت ليلة لاقتصرت عليها ؛ لذا كان الاجتهاد فى العشر الأواخر من رمضان ،
– وقد قال (ص) : ( من قـام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) ، فقيامها إيمانا بالله واحتسابا للأجر عنده جزاؤه مغفرة الذنوب ، ومن غفر له فقد اعتقت رقبته من النار وأدخل الجنة .
– وختاما ماذا نقول فيها من الدعاء ؟
ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله أرأيت أن وافقت ليلة القدر ما أقول ؟ قال : قولي : ( اللهمَّ إنك عفوٌ كريمٌ تحبُ العفو فاعفُ عني ) ..
نسأل الله تعالي أن يبلغنا ليلة القدر وخيرها ..
وللحديث بقية عن علاماتها .. والله نسأل القبول .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق