قصة عمر بن عبد العزيز
إليك يا أخي الكريم قصة هذا الخليفة الزاهد الذي قدم أمر آخرته على
دنياه؛ كان كثير المراقبة لله سبحانه وتعالى فما غره جاهه ولا سلطانه؛
لأنه كان عالمًا عاملاً وكان كثيرًا ما يدعو ربه أن يخفي موته عن الناس
فإليك قصته.
ولد عام 61هـ/681م، في المدينة المنورة، وتربى عند أخواله آل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ليسير على خطى جده الفاروق، في العدل والجرأة على الحق، ليصبح خامس الخلفاء الراشدين. إنه عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم رضي الله عنه. نشأ عمر منذ طفولته شديد الإقبال على طلب العلم، وكان ملازماً لمجالس العلماء والصحابة والتابعين. فبلغ عدد أساتذته ثلاثة وثلاثون أستاذاً، ثمانية منهم من الصحابة، والباقي من التابعين رضي الله عنهم أجمعين.
ونتيجة لهذه النشأة فعل ما لا يستطيع فعله من هم في سنه، فقد جمع القرآن صغيراً. وكان لهذه الأجواء الإيمانية التي عاصرها مع الصحابة والتابعين، في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكبر الأثر عليه عند توليه الخلافة في ما بعد. ورغم صغر سنه أيضاً فقد كان له مكانة عظيمة عند بني أمية، وعمه الخليفة عبد الملك بن مروان بشكل خاص، وكان من دالته عليه أن كتب له يوماً، وكان حينها في عمر المراهقة: “أما بعد، فإنك راعٍ، وكلٌ مسؤول عن رعيته، حدثنا أنس بن مالك انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته”، (اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) (87) سورة النساء.
ولشدة حبه له زوجه ابنته فاطمة بنت عبد الملك. وقد حزن عند وفاة عمه الخليفة عبد الملك بن مروان، حزناً عظيماً، نظراً لقوة العلاقة في ما بينهما. بعد وفاة الخليفة عبد الملك بن مروان، تولى الخلافة ابنه الوليد بن عبد الملك، فولى عمر على المدينة المنورة، وهو ما زال بعمر السادسة والعشرين، وبعد أربع سنوات ولاه على الحجاز بأكملها. فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن اشترط على الخليفة ثلاثة شروط ليوافق على ولاية المدينة:
أولها: أن يعمل في الناس بالحق والعدل ولا يظلم أحداً.
ثانيها: أن يسمح له بالحج في السنة الأولى، ولم يكن حجَّ قبل ذلك.
ثالثها: أن يسمح له بأن يجزل العطاء للناس في المدينة.
أي مسؤول هذا الذي يشترط إقامة العدل من أجل قبول منصب؟! وبعد أن قبل الوليد جميع شروطه، بدأ ولايته بتأسيس مجلس للشورى، سماه “مجلس فقهاء المدينة العشرة”. ومن أهم انجازاته أثناء إمارته للمدينة أيضاً توسعة المسجد النبوي، وتحسين عمارته، رغم اعتراضه على زخرفة المساجد إلا انه زخرف المسجد النبوي تنفيذاً لأمر الخليفة. ساد العدل والاستقرار أثناء إمارته للمدينة والحجاز، فأحبه الناس. لكنه كسب عداوة الحجاج بن يوسف الثقفي، فقد كانت الكراهية بينهما مشهورة، لقد كرهه عمر بسبب ظلمه وجوره على أهل العراق، كان الحجاج ديكتاتوراً وطاغية بمعنى الكلمة. وقد حاول عمر بن عبد العزيز تنبيه الوليد بن عبد الملك لذلك عدة مرات، لكنه لم يستمع لنصحه. فقد كان يميل لسياسة الحجاج في الشدة والعنف، وكان يرى فيه المُدافع عن توطيد حكمه، فأطلق له العنان، ومنحه كل الصلاحيات، التي أساء الحجاج استخدامها.
كما أن رفض عمر لاستقبال الحَجَّاج في المدينة المنورة، عندما عقد لواء الحج للحَجَّاج، وبعث بذلك للخليفة الوليد بن عبد الملك. دفع الحجاج للتآمر على عمر، وكان له يد في عزله عن الإمارة لأنه أراد الانتقام منه. فبدأ يتهمه عند الخليفة بأنه يقوم بإيواء الخارجين على الدولة الأموية، ويمنحهم حمايته. ولما استمرت وشايات الحجاج وازداد إلحاحه، تم عزل عمر عن ولاية المدينة، بأمر من الخليفة، بعد ست سنوات قضاها والياً على المدينة والحجاز. بعد ذلك عاد عمر بن عبد العزيز إلى الشام، واستقر في مزرعة له في مدينة السويداء، يراقب ما وصل له حال بني أمية من استكبار وتجبر وتعنت. وكان غير راضٍ عن استخدام الوليد لعدد من أقسى وأسوأ الولاة، الذين ساروا على نهج الحجاج. فقد كان عمر معارضاً لاستخدام القبضة الحديدية على حساب الحل السياسي.
بعد أن توفي الوليد بن عبد الملك، في عام 96هـ، تولى الخلافة أخيه سليمان بن عبد الملك، والذي أتاح المجال لعمر واسعاً لتطبيق أفكاره. فقد قربه إليه واتخذه مستشاراً، وعمل برأيه في كل صغيرة وكبيرة. فكان من أهم قرارات التي اتخذها سليمان بن عبد الملك، بتوجيه من عمر رحمه الله، عزل ولاة الحجاج وغيرهم ممن أساء استخدام السلطة. كما أمر بإقامة الصلاة في وقتها، فقد كان الوليد يؤخر صلاة الظهر والعصر. وغيرها الكثير من القرارات التي صلح بها حال الأمة. وبقي ناصح الخليفة الأمين إلى أن توفي سليمان بن عبد الملك.
عندما حل بسليمان مرض الموت، عهد لعمر بن عبد العزيز بالخلافة من بعده. فتولى الخلافة في يوم الجمعة، العاشر من صفر عام 99هـ. مما يؤخذ على عمر بن عبد العزيز، أن أول أعماله بعد توليه الخلافة، كان وقف الفتوحات والتوسع في أطراف الدولة. مما كان له أكبر الأثر في تأخر فتح القسطنطينية، رغم أن مسلمة بن عبد الملك كان على مشارفها آنذاك، فعاد بجيشه بأمر من الخليفة عمر. وكانت وجهة نظره في ذلك بأن تنظيم الأمور الداخلية للدولة، وحفظ دماء المسلمين أولى من توسيع رقعة الدولة الاسلامية.
لكن على الرغم من ذلك، فقد كان إدارياً وسياسياً عظيماً، إضافةً إلى صلاحه وتقواه. فعمَّ العدل والخير بلاد المسلمين. وأعاد الحقوق إلى أصحابها، ورد اعتبار آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ورد عليهم حقوقهم. وأجبر ولاة الأمر على اعطاء كل ذي حقه. وأمر جميع أبناء عمومته من بني أمية برد المظالم، ورد ممتلكاتهم جميعها لبيت مال المسلمين. فقد بالغ بنو أمية حينها في مظاهر السلطان والعظمة، وأنفقوا الكثير من الأموال على الأبهة. فلم تمضِ أيام إلا ووجد بني أمية أنفسهم مجردين، إلا من حقوقهم المشروعة. فثاروا عليه، ولجأوا لعمته فاطمة بنت مروان، من أجل التوسط لهم عنده، لكنه رفض الرضوخ لهم. وكان قد بدأ بنفسه فضُرِب به المثل في الزهد، وتداولت العديد من الحكايات عن زهده.
كما احترم حقوق الإنسان، وذوي الاحتياجات الخاصة؛ فقد جعل للمرضى خدماً يقومون على راحتهم، وعيّن لكلّ خمسة أيتامٍ خادماً، وعيّن لكل أعمى خادماً يعينه ويقضي حاجته. كما كان حريصاً على تدوين الحديث الشريف، خوفاً من اندثاره وضياعه، فأصدر أمره لجميع الولاة والعلماء بتدوينه. كما فرض الرواتب للعلماء ليتفرغوا للبحث العلمي، وعقد مجالس التعليم. كما عُرِف عنه منعه لتوظيف اليهود والنصارى في أعمال المسلمين. ومما يحسب له انه أسقط الجزية عن أهالي البلاد المفتوحة، فقد كان معنياً أكثر بهدايتهم للإسلام. وقال في ذلك: “إن الله بعث محمداً هادياً، ولم يبعثه جابياً”.
ولقد اعتمد في سياسته المالية على أن لا ينفق مال الدولة إلا في ما هو ضروري، ولأجل النفع العام، فقد اعتبرها أمانة. وقد كان في ذلك قدوة، فاتبع ولاته نهجه، وساروا على طريقه. فنتج عن هذه السياسة تدفق الأموال لبيت مال المسلمين. فاستخدمت في تحسين مستوى حياة الناس، وبناء الدولة، وقضاء ديون الغارمين، وفك رقاب الأسرى، وقد منحت الأعطيات للسجناء إلى جانب الطعام والشراب. علاوةً على ذلك، تكفل بيت المال بتكاليف زواج من لا يملك القدرة عليه.
ورغم قصر المدة التي قضاها في الخلافة، والتي بلغت ثلاثين شهراً، إلا ان الناس في عهده عاشوا في رفاهية قل نظيرها، لدرجة أن المنادي كان ينادي في الأسواق، عن من يحتاج لأموال الزكاة فلا يجد. فقال مقولته الشهيرة: “انثروا الحب على رؤوس الجبال، حتى لا يقال جاع الطير في بلاد المسلمين”.
توفي رحمه الله عام 101هـ، بعد خلافة لم تتجاوز السنتين وخمسة أشهر، بعد مرض استمر لمدة عشرين يوماً فقط. وقد تضاربت الروايات حول اسباب مرضه، لكن أرجحها انه مات مسموماً. فقد قيل إن بنو أمية ضاقوا ذرعاً بسياسات التقشف التي فرضها على نفسه وعليهم، والتي حرمتهم مما اعتبره حقوق مكتسبة بسبب انتمائهم للعائلة الحاكمة.
يقع ضريح الخليفة عمر بن عبد العزيز في قرية دير شرقي، الواقعة في مدينة معرة النعمان في سوريا. وخلفه ابن عمه يزيد بن عبد الملك. وعندما بلغ ملك الروم أمر وفاته، جمع حاشيته، وقال لهم: “إن ملك العرب الرجل الصالح قد مات”. رحم الله خامس الخلفاء الراشدين، الذي أثبت بأن التغيير لا يحتاج لسنوات، وإنما يحتاج للرغبة والنية الصادقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق