طالوت -الملك القوي الصالح
طالوت -الملك القوي الصالح:
إنّ من القصص المهمة في القرآن، هي القصة التي تكلمت عن طالوت، وهو أحدِ ملوكِ بني إسرائيل؛ ففيها الكثير من العبر والدِّلالات. ويُقال: إن طالوت هذا كان سقَّاءً فقيراً لم يكن معروفاً بينهم، وقيل إنهم لم يعرفوه للوهلة الأولى وأخذوا يفكرون فيمن يكون طالوت، ولكن حينما عرفوهُ احتقروه واستنكروا أن يكون ملِكًا عليهم؛ لأنه ليس من وجهائهم، بالإضافة إلى أنهُ فقيرٌ وليس لديه مال، فالبرغم من أهمية هذه الإعتبارات التي ذكروها؛ لأن الوجاهة والمال مما يُعين الحاكم على تقلُّد مهام منصبه وتيسيرِ قيادته ومواجهة الأزمات؛ لما له من علاقات وخبرةٍ ووفرة مادية، لكن الله جل شأنه أخبرهم أن هناك اعتبارات أخرى تتفوق على هذه الاعتبارات، أولها وأهمها اصطفاء له، وهذا أمر مفهوم بالنسبة لقومٍ يأتيهم خبرُ السماء وبينهم نبي يبلغ رسالة ربه إليهم، ويجب أن يكون هذا الاصطفاء حاسمًا في استجابتهم، لولا أنهم جبلوا على الجدل والمراوغة والعناد، وبالإضافة إلى الاصطفاء الإلهي.
الآية الربانية لاختيار طالوت:
قال الله تعالى: “وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” البقرة:248. إنّ الحق يأتي بالمعجزة التي تؤكد اختيار الله لطالوت ملكاً، ولقد كان من المفترض أن يستقبل هؤلاء القوم نبأ اختيار طالوت بأدب ودون لجاجٍ؛ لأنّ الذي يحملُ نبأ الاختيار هو نبيّهم الذي وثقوا به ولجئوا إليه، لكنهم لم يستقبلوا الأمر بأدب. ورغم ذلك فأدبُ النبوة يرد على لجاجتهم بآية مرسلة من الحق سبحانه وتعالى، إنها الآية الربانية التي تدلُ على صلاحية طالوت للمُلك باختيار من الله، وتلك الآية هي: “إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ“. ونأخذ من هذا القول الحكيم ثلاثُ مسائل.
الأولى: إنّ التابوت كان غائباً مفقوداً.
الثانية: إنّ التابوت كان معروفاً لكل هؤلاء القوم.
الثالثة: إنهم كانوا في شغفٍ للحصول على هذا التابوت.
ما هي قصة التابوت:
فما هو التابوت؟ إنه الذي جاء فيه قول الرحمن: “إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ – أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ” طه:38- 39.
فالتابوت هو الذي جاء آيةً لملك طالوت، هو التابوت الذي أوحى الله إلى أم موسى أن تضع فيه ابنها وتلقيه في اليّم؛ ليُلقيه اليّم إلى الساحل، وهو الصندوق الذي كانت به التوراة.
ما الذي كان في التابوت:
يقول الله تعالى: “فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ” البقرة:248. وكيف يأتي؟ يقول الله تعالى: “تَحمِلُهُ الملائكةُ”. إذن ما دام التابوت يحملُ تلك الآثار، وفيه السكينة لهؤلاء القوم بما يحملهُ من آثار آل موسى وآل هارون، وما دام هذا التابوت يأتي وتحملهُ الملائكةُ، فلا بدّ أن أمره جليل وله مساس بأمور العقيدة؛ إذن فهذا التابوت إنما جاء ذكره هنا؛ ليدلنا على أنه كان مفقوداً من بني إسرائيل، وكان افتقاده إما بسبب عدو قد غلبهم، وحاول اقتتاص المقدسات التي كانت في بلادهم، وإما أنّ هذا التابوت قد فُقد لتخاذلهم في أمر العناية به.
وصورة مجيء التابوت تُحرك المواجيد الدينية، وعندما يأتي التابوت محمولاً بواسطة الملائكة، نعرف أن التابوت قد جاء بصورة تنخلع لها القلوب، والتابوت يحمل آثاراً مما ترك آل موسى وآل هارون، فقد يكون بالتابوت بعض من صحف التوراة، وقد يكون بالتابوت جزءً من عصا موسى عليه السلام.
وقد تقبل هؤلاء القوم طالوت ملكاً لهم، وبدأ يُمارس المهمة التي جاء من أجلها، لقد جاء من لكي يُنظم القوم ليخوضوا حرباً ضدّ عدوٍ أخرجهم من الديار وأسر الأبناء؛ لذلك كان لا بدّ أن يَفصِلُ طالوت الجنود عن القوم، وذلك قول الله تعالى: “فلّما فَصَلَ طالوتُ بالجُنودِ” ماذا يعني بالفصل؟ إنه يعني عزل شيء عن شيءٍ آخر.
الإبتلاء الذي حلّ بطالوت:
إنّ الابتلاء الذي أراد الله للجنود التي تقاتلُ تحت راية طالوت الملك، كان يتلخص في المرور على نهر، من يشرب من هذا النهر لا يكون من جيش طالوت، ومن لا يشرب منه سيكون من الجيش المقاتل، وقد أذن الله لهم أن يشرب الجندي بمقدارِ غُرفةً من يدٍ، ولنا أن نلحظ الدقة في تصوير هذا الزمن، إنه يوحي في النفس معاني كثيرةٍ: “إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ ” إنهُ قولٌ يوحى بمعانٍ جمة وعميقةٍ إنهم سوف يمرون بعد عطشٍ على نهر، والمأمون على القتال هو من يمرُ على النهر وهو عطشان؛ لأنه يلتزم أمرُ الله بعدم الشرب من النهر، إنه إنسان يؤثر مطلوب بدنه، لذلك هو مؤتمن على القتال، ولم يقس الله في الابتلاء، بل أذن سبحانه بما يهدئ الإحساس بالعطش، وهو أن يشرب الإنسان ملء غرفةً من يده.
إذن فالاختبار الذي وضعه الله كان مناسباً للمهمة التي هم مقبلون عليها؛ لذلك نجد منهم من شرب من الماء ونسي المهمة، ومنهم من خضع لأمر الله ولم يشرب إلا بالقدر الذي سُمحَ به، ومنهم من لم يشرب.
ما هي نقط الاختبار التي مرّ عليها جيش طالوت؟
لقد مروا على أكثر من نقطةِ اختبار وهي ما يلي:
أولاً: بأن كتب الله عليهم القتال فتولوا إلّا قليلاً منهم.
ثانياً: ومروا بمسألةٍ تعين طالوت ملكاً عليهم، فقد جادلوا واعترضوا حتى جاءهم التابوتُ دليلاً على أن طالوت قد تم اصطفاؤه ملكاً لهم بأمرٍ من الله.
ثالثاً: أيضاً اختبار المرور على نهرٍ وهم عطاشا، فلم يُثبت إلا القليل منهم، وهم الصالحون للقتال. فالتصفيةُ المتكررة تتيحُ للمؤمن أن يعرف كيفية ميثاق الابتلاء؛ ليكون مستعداً للجهاد في سبيل الله، فلا يُجاهد في سبيل الله، إلا المأمون على هذا الجهاد.
وتحينُ التصفيةُ الأخيرة؛ فقد تجاوز طالوت النهر والذين آمنوا معه ويظهرُ لهؤلاء موقف جديد، لقد نجحوا في أكثر من اختبار، ولكن بعضهم عند الاختبار الأخير قال: “لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ” وقال البعض الآخر: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ” البقرة:249.
وهكذا نرى اختلاف الشعور عند الفريقين لحظة رؤية جيش الخصم وقوته، إنّ إدراك ووجدان ونزوع القوم الذين خافوا عند رؤية الجيش المقاتل، يختلف عن إدراك ووجدان ونزوع القوم الذين لم يهابوا الجيش الخصم، رغم أنهم رأوه، لقد اتحدث الرؤية واختلف النزوع باختلاف المواجيد.
يقول تعالى: “وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ” البقرة:250 فقد طلبت القلة المؤمنة المقاتلة أن يُفرغ عليهم ربهم وخالقهم: الصبر وأن يُثبت أقدامهم في القتال؛ وغاية الصبر وتثبيت الأقدام أن يتحقق النصر على القوم الكافرين، وهذا بعض عطاء الله لمن يقاتلُ في سبيله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق