Source: عذرا أبي وأمي .. فأنا مشغول ! – منتديات غزل قلوب مصرية
عذرا أبي وأمي .. فأنا مشغول !
لاتزال تلك الصورة التي اختارتها وسائل الإعلام الغربية لأحد الأبناء بينما
هو في زيارة لأبيه في دار المسنين التي أودعه إياها , ماثلة أمام عيني ,
وبينما الابن يسأل عن ابيه سؤالا سريعا وهو منشغل بأشغاله , فينظر
في جواله تاره , ويرد بالكتابة تارة , وينادي على الممرضة بأنه
في عجلة من أمره , ولابأس لا يهم هذه المرة أن يلتقي بأبيه
فيكفيه الآن أن يطمئن أنه بخير !
المشهد يكتمل مأساوية بينما يقول له الطبيب إن اباه قد اشتد عليه
المرض وهو الآن لايكاد يهتم بما حوله , ليدخل الابن فيرى اباه بحالة
يرثى لها , ويحاول أن يكلمه بدون جدوى , فالاب لايكاد يعرفه !
إنها طرقة شديدة على راس ذلك الابن الذي نسى أباه في دار المسنين ,
لفترات طويلة كان يكتفي فيها بمجرد السؤال عنه بالتليفون ,
ودفع بعض المصاريف القليلة للدار ..
مشهد آخر يحلو لوسائل الإعلام تناقله لأب قد اصابه الزهايمر ,
وصار لا يتحكم في قضاء حاجته , وبينما يزوره ابنه هو وبعض اقربائه
إذا بالاب لا يكاد يعرفه , وإذا به يتبول أثناء اللقاء , فيشمئز الابن ,
ويصيبه الحرج , وينادي على الممرضة , ويرحل مغضبا !!
هذا ما تروجه لنا وسائل الإعلام , ولست أدري هل مرادها
أن نعتاد تلك المشاهد , أم أنها ترسخها في أذهاننا بهدف أو آخر ؟!
لكن على جانب آخر هناك مشاهد إيجابية , لايمكن أن نغفلها , وهي تدور
من حولنا , وهي تكاد تكون قاصرة على المتدينين , واصحاب القلوب
الطيبة , والمبادىء الإيجابية من الأبناء , الذين يقومون برعاية والديهم
في كبرهم , ويقدمون نماذج جيدة في البذل والعطاء لهم , مما يعطينا
الأمل في بقاء هذا النوع من البر , وعدم اغترابه مع كل مااغترب !
ان بين التمني والفعل بون شاسع , كما بين الحقيقة والخيال , ولو أعطي
الناس بأمانيهم لصارت الحياة أمواجا من محالات , لكن العمل الواقعي
هو المحك , والتطبيق التنفيذي هو المختبر الفعلي دائما .
كلنا ولاشك يرتجي برا بوالديه , وكلنا ولاشك يؤمن بآيات الله سبحانه
الآمرة بذلك , والحاثة عليه , والدافعة اليه بمعان كثيرة وأساليب مختلفة .
لكننا في غالب الأحيان نهون من شأن تنفيذ البر وتطبيقه , فننادي دائما
بكون البر ” شىء هين , وجه طليق وكلام لين ” .. وبأن البر ” الكلمة
الطيبة في اللقاء والطيبة في الوداع ” .. وبأن البر ” أن تجعلهما يشعران
بحبك وحرصك عليهما ” وغير ذلك .
كلها أوصاف بسيطة وسهلة , وبالفعل هي لابأس بها إن كنا نيسر
على الناس بر والديهم , وإن كنا ندفعهم نحو ابتداء البر
ونحو تحبيبه إلى قلوب الناس .
لكن حقيقة البر للوالدين ليست بالشىء الهين السهل , فهي عمل هام ,
وعبادة كريمة , ومسئولية جسيمة , خصوصا إذا كان البر مطلوبا
في عمرهما الكبير وبعدما بلغا من العمر منتهاه ..
إنك ايها المؤمن قد تواجه ما لم تكن قد حسبت له حسابا من قبل ,
فقد تواجه بأب مريض قد ثقل جسمه واشتدت حساسيته , وكثرت مطالبه
, وأم قد كثرت آلامها , وتيبست أطرافها , وغاب عنها كثير من التعبيرات
والمعاني , فتتابع غضبها وساء ظنها في كثير ممن حولها ,
فضلا عن ثقل جسدها وطول أنينها ..
كما قد تواجه بتنازلات كثيرة ربما تكون في عملك لتستطيع رعايتهما
أو بترك فرصة لديك ( ربما سفر او دراسة او زواج او مثاله ) لأن
والديك يحتاجانك ولا يمكنهما الاستغناء عن وجودك بجوارهما اضطرارا
إنك ههنا ايها المؤمن مطالب ببر حقيقي كامل لوالديك , وليس برا كذاك
الذي كنت تتحدث عنه في شبابهما وصحتهما وقدرتهما وعطائهما .
إنهما هما اللذان حملانك صغيرا , وتأوها لأنينك , وخافا لتأوهك , وارتعدا
لغيابك , ولم تنم جفونهما حرصا عليك , واشتد سعيهما لكفالتك والانفاق
عليك , فطارت نفوسها فرحا ببسمتك الأولى واشتدت قلوبهما فرحا
بحروفك الاولى وطالت اعناقهما الثريا بنجاحاتك وانجازاتك
كأنما هي لهما بذاتهما ..
هذان هما اليوم ينتظرانك لترد الجميل , وتزيد عليه ,
ينتظرانك لترد الاحسان احسانا , وتعيد الوفاء كرما وشكرانا ..
الحقيقة انه
اختبار شديد الصعوبة , يرسب فيه الكثيرون , ممن تضيق صدورهم
بآبائهم وأمهاتهم , من كثرة مطالبهما , أو شدة معاناتهما في أمراضهما ,
فيضجرون تارة , ويبتعدون تارة , حتى إن البعض قد يتمنى رحيل
الكريمين – اللذين ربياه وعلماه ورعياه – عن الدنيا ليستريح
من عناء رعايتهما وثقيل برهما !
ان هذه المهمة الكبيرة والتبعة الثقيلة لتحتاج منا عدة أمور
لإنجاحها والفوز بعطائها والحصول على ثوابها الكبير الجزيل :
واول ما تحتاجه هذه المهمة هو الفهم الصحيح للبر , فليس البر مجرد
كلمات تقال او اعمال مفردات تعمل , بل إنه قيمة يجب أن ترسخ في قلب
وعقل الابناء , ومبدأ يجب أن يغرس في صدورهم , فيستمر عبر الايام
بغير انقطاع , ويزيد قدره كلما زادت حاجتهما له .
كذلك فإن البر ينبغي ان يكون شاملا لمناحي الحياة وكل الأعمال , فأوله
بر القلب لهما بصادق حبهما , وعميق الامنيات لهما بكل خير وصحة
ونفع , وثانيه بر المال بالانفاق عليهما بكل ما يقدر عليه من كرم وسخاء
, فهما أحق بالبر من أي أحد , وهما أحق بالمال عند حاجتهما من اي أحد
, والبر بالمال دليل وبرهان على صدق البر و واستمراره مع سخائه دليل
حسن على حسن العزم وطيب المبتغى لهما .
إنه دين عائد إليك عن قريب , فإياك أن تفرط أو تستهين , فلئن قمت
بحقهما عليك الآن , فإن غدا ينتظرك ليقوم أبناؤك بحقك عليهم , وإن
فرطت وتهاونت وانشغلت , وآثرت حياتك الدنيا بما فيها , وأهملت أبويك ,
فلبئس غد ينتظرك عند كبرك , ثم في نهاية عمرك , وسينتظرك كثير الندم
مهما كان بين يديك من مال او سلطان , وساعتها لن ينفعك الندم !
إنك لتلحظ ايها القارىء الكريم أن الآيات التي أمرت بالبر أمرا وجعلته
كعمل صالح بعد التوحيد أمرت بخصوص البر في الكبر , إذ حقيقته تبين
هناك والاختبار الفعلي له يكون عند المشقة والحاجة
الى الصبر والانفاق والعطاء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق