Source: إطلالة أدبية – منتديات غزل قلوب مصرية
*
سمعت من مقدِّم أحد البرامج التلفزيونية أبيات شعر أعجبتني يقول مطلعها:
بَرَزْتُ منَ المنازِلِ والقِبابِ
فلم يَعْسُرْ على أَحَدٍ حِجابي
فدفعني الفضول إلى البحث عن قائل هذه الأبيات.. فكان الجواب أنها للشاعر أبي الشمقمق
فمن هو أبو الشمقمق؟
إنه أحد المشهورين بالهجاء في الشعر العربي
والهجاء يمكنُ تعريفه أنّه كلُّ شعر قِيلَ في القدح أو الذمِّ للنَّيْلِ منْ شخص ما أو قبيلةٍ ما، وهو أحد أغراض الشعر العربي القديمة، وقدِ اشتهر شعراء كُثُر أجادوا الهجاء وأكثروا منه، ولعلَّ أشهرهم الحطيئة الذي هجا أباه وأمّه وهجا نفسَهُ أيضًا، والفرزدق وجرير والأخطل والراعي النميري الذين كانوا يقيمون حربًا شعريَّةً كاملة لم تهدأ إلّا بوفاتِهم،
أبو الشمقمق 112 – 200 هـ / 730 – 815 م مروان بن محمد أبو الشمقمق. شاعر هجَّاء، من أصل البصرة، بخاري الأصل، من موالي بني أمية.
وكان لقبه بأبي الشمقمق عائدًا لطول قامته، وكان عظيم الأنف، قبيح الشكل والمنظر. زار بغداد في أول خلافة الرشيد العباسي، كما أنه سافر إلى عدَّة مدن في فترة الخلافة العباسيّة، فزار المدن التي تقع تحت حكم الخلافة كخراسان والأهواز وسجستان وسابور والموصل وغيرها، ومدحَ بعضَ ولاة هذه المدن فنال شيئًا من المال بمديحِهِ، فقد مدحَ خالد بن يزيد والي الموصل وكسبَ، ولم يُجْمَعْ شعره في ديوان موحّد، بل جاء شعره متفرِّقًا، وجديرٌ بالذكر أنّه قام المستشرق “غوستاف غرنباوم ” بجمع ما بقي من شعرِ أبي الشمقمق في كتابهِ “شعراء عباسيون”.
عاصر أبو الشمقمق الشعراء الفحول، كأبي العتاهية وأبي نواس وبشار بن برد، وابن أبي حفصة، بالإضافة إلى دعبل الخزاعي ومسلم بن الوليد (صريع الغواني)، والعباس بن الأحنف، وأبي دلامة، ولم يبلغْ منزلَتهم الشعرية، ولكنّه كان شديد القرب منهم، وقد احتكَّ بهم احتكاكًا كبيرًا فكانَ له معهم أخبار كثيرة، فقد هجا منهم بشار بن برد وأبا العتاهية وأبا نواس، يهجوهم لكي يعطوه بعض الفتات، وعفّ أولئك الشعراء عن الرد عليه لأنه لا شيء لديه يخسره، ومع ذلك يذكر أن بشار بن برد كان يعطيه كل سنة مائتي درهم، يسميها أبو الشمقمق جزية.
وله هجاء في يحيى بن خالد البرمكي وغيره، وهجاؤه بذيء جدًّا ومكشوف! ومع ذلك لم ينفعه الهجاء ولم يفلح في المدح الذي لم يْخْلُ شعره من بعض القصائد في ذلك والتي تكسّبَ بها.
وهكذا فقد كانَ أبو الشمقمق فقيرًا مُعدَمَ الحال، بائسًا ساخرًا، رغم أنه عاش في العصر العباسي الأول، ذلك العصر الذي زاد فيه الأغنياء غنًى، والفقراء فقرًا، رغم أن العرب والمسلمين وقتها يملكون أكثر من نصف الأرض، وأن الرشيد يقول للسحابة: (أمطري حيثُ شئتِ فسوف يأتيني خراجك) ومع ذلك ذكر علي الوردي (عالم الاجتماع) أن أجر العامل الماهر في ذلك العصر لا يزيد على ثلاثة دراهم في اليوم، في الوقت الذي يُعطى فيه الشاعر المداح ألف دينار في لحظة..، والدينار عشرة دراهم، مما أضاع مواهب أكثر الشعراء في التكسب والتزلف والمديح، لكن البؤساء منهم لا يصلون، ويظلون فقراء بائسين، ومنهم (أبو الشمقمق) هذا
وأصبح لشعره شعبيّة، لأنه يعبر عن البؤس والفقر، إلى الحد الذي جعل الجاحظ يشهد له بقوله:
“أبو الشمقمق أعظم الشعراء تعبيرًا عن معاناة الفقراء ” وكان أبو الشمقمق بعيدًا جدًّا عن منزلة الأمراء بين الناس، لشدة فقره ونسبه المتواضع، فلم يجدْ ما يتقرّب به إلى الأمراء وأصحاب الأمر إلّا الشعر مستغلًّا طلاقة لسانِهِ، وقد اشتهر شعرُهُ بالهجاء الشديد اللاذع -كما ذكرنا – والهزل والشكوى من فقرِهِ وسوء حالتِهِ، حتّى ندرَ شعر الفخر والحماسة في شعرِهِ.
وقد انعكسَ فقرُهُ واضحًا على كثير من أبيات شعرِهِ، حيث كانَ أبو الشمقمق يصوِّرُ في كثير من قصائدِهِ شدّة فقرِهِ، ويصف بيتَهُ المتواضع جدًّا حيث كان يسكن في البصرة، فها هو يقول:
في مبيت من الغَضارة قفرٍ
ليس فيه إلا النوى والنخالةْ
عطّلته الجرذان من قلة الخيـ
ـرِ وطارَ الذُّبابُ نَحو زُبالةْ
وقال أيضًا في وصف شدَّةِ فقرِهِ:
ولقد قلتُ حينَ أقْفَرَ بَيْتِي
من جِرَابِ الدَّقِيقِ والفَخَّارَهْ
ولقد كان آهِلاً غَيرَ قَفْرٍ
مُخْصبًا خَيْرُه كثيرَ العِمَارَهْ
فأرى الفأرَ قد تجنبنَ بيتي
عائذاتٍ منهُ بدارِ الإمارَهْ
ودعا بالرحيلِ ذبان بيتي
بينَ مَقْصُوصَةٍ إلى طيَّارهْ
وأقامَ السِّنَّوْرُ في البيتِ حَوْلا
ما يَرَى في جوانبِ البَيْتِ فارَه
يُنغِضُ الرَّأْسَ منه من شِدَّةِ الجُو-
-عِ وعيشٍ فيه أذىً ومرارَهْ
ويقول في وصف فراشه:
لو قد رأيت سريري كنت ترحمني
الله يعلم مالي فيه تلبيس
والله يعلم مالي فيه شادكةٌ
إلا الحصيرة والأطمار والدّيس
“الديس أردى أنواع العشب اليابس”
ومن شدة فقره وبؤسه لا مركب له، حتى الحمار عزّ عليه.. يقول:
أتراني أرى من الدهر يومًا
لي فيه مطيةٌ غير رجلي؟
كلما كنت في جميع فقالوا
قرّبوا للرّحيل، قرّبت نعلي!
حيثما كنت لا أخلّف رحلًا
من رآني فقد رآني ورحلي
لذلك لا غرابة أن نراه صعلوكًا متبرمًا بالناس، وقد لزم بيته في أطمار مسحوقة، وكان إذا استفتح عليه أحد بابه خرج، فينظر من فروج الباب، فإن أعجبه الواقف فتح له وإلا سكت عنه. فأقبل إليه يومًا بعض إخوانه الملطفين له، فدخل عليه، فلما رأى سوء حاله، قال له: أبشر أبا الشمقمق، فإنا روينا في بعض الحديث: إن العارين في الدنيا هم الكاسون يوم القيامة. فقال: إن صح والله هذا الحديث كنت أنا في ذلك اليوم بزازًا، ثم أنشأ يقول:
ولقد أهزلت حتى
محتِ الشمسُ خيالي
ولقد أفلست حتى
حلّ أكلي لعيالي
ومن شعره أيضًا:
لو ركبت البحار صارت فجاجًا
لا نرى في متونها أمواجًا
ولو أني وضعت ياقوتةً حم-
-راء في راحتي لصارت زجاجا
ولو أني وردت عذبًا فراتًا
عاد لا شك فيه ملحًا أجاجا
فإلى الله اشتكي وإلى الفض-
-ل فقد أصبحت بُزاتي دجاجا
ونأتي الآن إلى الأبيات التي تحدثنا عنها في فاتحة حديثنا فهو يقول فيها واصفًا ما فيه من فقر وبؤس:
بَرَزْتُ منَ المنازِلِ والقِبَابِ
فلم يَعْسُرْ على أَحَدٍ حِجَابِي
فمنزليَ الفضاءُ وسقفُ بيتي
سماءُ اللهِ أوْ قطعُ السحابِ
فأنتَ إذا أردتَ دخلتَ بيتي
عليَّ مُسَلِّمًا من غَيْرِ بابِ
لأني لم أجدْ مصراعَ بابٍ
يكونُ مِنَ السَّحَابِ إلى التُّرَابِ
ولا انْشَقَّ الثَّرى عن عودِ تختٍ
أؤمل أنْ أشدَّ بهِ ثيابي
ولا خِفْتُ الإبَاقَ على عَبِيدي
ولا خِفْتُ الهلاكَ على دَوَابي
ولاحاسبتُ يومًا قهرمانًا*
مُحاسبةً فأغْلَظُ في حِسَابِي
وفي ذا راحةٌ وَفَراغُ بالٍ
فدأبُ الدهرِ ذا أبدًا ودابي
*القُهْرَمانُ: هو القائم والوكيل والحافظ لما تحت يده، وهي كلمة فارسية تعني أمناء الملك، أو القائم بأمور الرجل. وقيل أنها مرادف لكلمة خازن باللغة العربية، والخازن هو متعهّد أو مسؤول الخَزْن، الذي يتولى حفظ المال وغيره وإنفاقه، وبيده حفظ الطعام والمأكول. وتختلف وظيفة القهرمان بحسب ماوكل أليه، فأساس الوظيفة هي التدبير والإدارة لما تحت يده ، فقهرمانة الحرم هي مدبرة الحرم، وقهرمان الخيول هو سائسها وقهرمان البيت هو القيم والمدبر والناظر فيها ورئيس خدمها.
ومن شعر المديح عنده قوله في إحدى قصائدِهِ:
لشتانَ ما بينَ اليزيدينِ في الندى
إذا عدَّ في الناسِ المكارمُ والمجْدُ
يزيدُ بني شَيْبَانَ أَكْرَمُ مِنْهُما
وإنْ غضبتْ قيسُ بنُ عيلانَ والأزْدُ
فتىً لم تلدْهُ من رعينٍ قبيلةٌ
ولا لَخْمُ تُنْميهِ ولمْ تُنْمِهِ نَهْدُ
ولكنْ نَمَتْهُ الغُرُّ من آلِ وائلٍ
وَبَرَّةُ تَنْمِيهِ وَمِنْ بَعْدِها هِنْدُ
وقال أيضًا يجمع بين المديح والهجاء:
أهلُ جودٍ ونائلٍ وفعالٍ
غلبوا الناسَ بالندى والعطيهْ
جئتهُ زائرًا فأدنى مكاني
وَتَلَقَّى بِمَرْحَبٍ وَتَحِيَّهْ
لا كمثلِ الأصمِّ حارثةِ اللؤ-
-مِ شَبِيهِ الكُلَيْبَةِ القَلَطِيَّهْ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق